في التسعينات الميلادية.. كنت قادماً من بيروت الباردة إلى مطار الملك خالد الدولي، أرتدي “جاكيت” من الجلد المبطن بالفرو.. ولم يكن موظف الجمارك بحاجة إلى أن ينهض من كرسيه، أو حتى ليعدل جلسته، إذ اكتفى بتلك النظرة، فاعترفت فوراً بأني أحمل أربعة دواوين قطع صغير لنزار قباني؛ خبأتها في جيوب الجاكيت السرية، بين الجلد والفرو، وفضحها “حر الرياض” الذي لم أحسب حسابه!
هددني الموظف بتصعيد الموقف، فآثرت السلامة، وسلمته الدواوين دون أي نقاش.. وفيما كان يظن أنه انتصر، كنت أحتفل بنجاة ديوان خامس، طويته تحت الشراب، وسترته بالجِينز؛ وكان هذا الانتصار البسيط يستحق التباهي، ونسج الحكايات، والمبالغات في تلك الأيام!
غازي القصيبي -رحمه الله- من أكثر المؤلفين الذين استفادوا من “دعاية المنع”، إذ كان يردد دائماً أنه، رغم صفته كوزير، إلا أن كتبه ممنوعة، وجميعنا نعلم أنها كانت الأكثر تداولاً ووفرة في كل مكان، ولم يحدث أن اختفت من السوق.. وعندما أقول السوق، فالتعبير لا يتجاوز بضع مكتبات معروفة على مستوى المملكة؛ التي يمارس أصحابها دورا شبيها بدور موظف الجمارك، وهو يتعرف على ما يحتاجه القادمون إلى المكتبة، واهتماماتهم، بمجرد التدقيق في ملامحهم وتحركاتهم بين الرفوف.
اليوم، يقترب معرض الرياض الدولي للكتاب، بهدوء ودون أي ضجيج… عشرة أيام تمر دونما أي جلبة، وكأنها لم تكن يوماً أجمل عشرة أيام في مدينة الرياض! وقد انتشرت المعارض في كل المدن تقريباً، وكم كانت الحال بهية، ونحن نلتقي أصدقاء قادمين من القصيم أو الطائف، محملين بعشرات الغنائم/الكتب، ويندبون حظهم الذي رماهم في مدن ليس لها حظ من “معرض كتاب”!
هذا جيلي، أما الأجيال التي سبقتنا فحدّث ولا حرج، وصدق أو لا تصدق، قصص تفوق خيال الروايات البوليسية، مع الكتاب، وعن الكتاب، وللكتاب… ولا يمكن أن نقارن جيلهم بجيلنا.. وغني عن القول: إن الجيل الحالي هو الجيل المدلل مقارنة بالجميع!
ففي زمن كانت فيه الكتب تُطلب بالبريد، أو تُهرّب بين الملابس، كانت التجربة أحياناً أغلى من الكتاب ذاته؛ ونحن نعيش لحظة الاكتشاف بشغف، وننتظر الجديد بشوق… أما اليوم، فالوفرة قتلت الدهشة، وسهولة الوصول جرّدت كل شيء من نكهته، وسلبته المتعة الحقيقية!
لكن العزاء، ونحن نقف مشدوهين أمام خيارات الجيل الحالي، هو إدراكنا أن هذا الجيل، ومهما تنعّم، وتقلب بتعدد الخيارات والوسائل، فإنه لا يمكن له أن يعيش “شغف الندرة”؛ عندما كان لكل شيء معنى، ولون، ورائحة.