طلال صالح بنان
من أهم تداعيات أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ تقويض إستراتيجية الردع، التي اتّبعتها إسرائيل بصرامة وتهوّر أحياناً، منذ حرب يونيو ١٩٦٧. في الحقيقة إستراتيجية الردع متلازمة وجودية، منذ إعلان قيام إسرائيل، بل وحتى قبل ذلك؛ منذ التفكير في إقامة دولة يهودية في فلسطين، والإعلان عن قرار الالتزام بقيامها، في أول مؤتمر صهيوني عُقد في بازل بسويسرا (٢٩ أغسطس ١٨٩٧). ذلك المؤتمر الذي تمخّض عنه وعد بلفور بعد عشرين عامًا (٢ نوفمبر ١٩١٧)، حتى تحقيق حلم الصهاينة، بمساعدة قوة الانتداب البريطاني، بإعلان اقتسام فلسطين التاريخية بين دولة يهودية ودولة عربية، مع وضع القدس تحت الوصاية الدولية، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: ١٨١ (٢٩ نوفمبر ١٩٤٧).
إسرائيل، منذ التفكير في إقامة دولة يهودية خالصة في فلسطين، نهاية القرن التاسع عشر، حتى تحقيق حلم الصهاينة، بإعلان قيام إسرائيل (١٤ مايو ١٩٤٨)، ارتبط وجودها، ليس بالاعتراف بها قانونياً من قبل الأمم المتحدة، بل بقدرتها الحفاظ على هويتها الدولية، بفرض واقعها الوجودي، بالقوة (المادية العنيفة)، عن طريق تطوير قوة ردع فعّالة، كخط دفاعي أولي منيع لتكريس واقعها، غير القانوني وغير الشرعي وغير الأخلاقي.
حقيقةً: الدولة العبرية، لم ولن تستغني عن المتغير الخارجي، ببساطة: لأنها لا تمتلك الموارد اللازمة لذلك، لا سياسياً ولا عسكرياً. الدولة العبرية هي دوماً في حاجة لحليف دولي كبير وسخي. سواء لإثبات شرعية واقعها، أو في مرحلة فرض واقعها دفاعاً عن وجودها وترسيخ دعاواها التوراتية، فيما تزعم من حقها بأرض الميعاد (كامل فلسطين التاريخية)، بل حتى ما وراء ذلك (إسرائيل الكبرى بما يتعدى مساحة إسرائيل الأولية، من النهر إلى البحر). في كل الأحوال لا بد للدولة العبرية أن تعتمد، إستراتيجياً، على قوة ردع جبارة، في مواجهة من ينافسونها على أرض فلسطين التاريخية (الفلسطينيون)، وكذا فرض واقعها القسري على جيرانها، وكل من يشكّك في هويتها الدولية، من أي قوى خارج نطاق منطقة الشرق الأوسط.
منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣، لم تتعرّض إسرائيل لأي اختراق رئيس لإستراتيجية الردع التي طوّرتها، منذ ذلك الوقت، وحتى اندلاع أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. كانت تلك الأحداث أول اختبار حقيقي لإستراتيجية الردع التي تنتهجها، جاءت هذه المرة من أهل الأرض أنفسهم (الفلسطينيون)، وليس من أعدائها التقليديين (جيرانها العرب). باختصار، من الناحية الإستراتيجية، الفلسطينيون لم ييأسوا من استعادة أراضيهم المحتلة، رغم «غول» إستراتيجية الردع الإسرائيلية. أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، طوّرت لواقع صراع جديد تمخض عن تحدٍ عمليٍ حقيقي لإستراتيجية الردع الإسرائيلية، أتى من جهة لم تكن في الحسبان، داخل إسرائيل وخارجها.
هنا تطوّرت عقيدة إستراتيجية يائسة، عند منظري الصهاينة، مفادها: استعادة إستراتيجية الردع، بأي ثمن، عن طريق اختبارها على كافة الجبهات، وليس على أعداء الدولة التقليديين من الدول العربية المجاورة. اختبار شامل يتضمن، هذه المرة أعداء الداخل، بهدف الحؤول دون قيام دولة فلسطينية بأي ثمن، مع استمرار محاولة تحييد جبهة المواجهة التقليدية خارج فلسطين التاريخية، من دول سيادية، بأنظمتها الدفاعية التقليدية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتفاخر بأن إسرائيل تخوض حرباً داخلياً وإقليمياً، مع ست جبهات، وأنه انتصر فيها جميعاً! وَفاتَه، أن قوة دولته بإمكانتها الجبارة الرادعة، لم تنجح في هزيمة جبهةِ غزة، ولا كسر إرادة المقاومة الفلسطينية، ولا في استعادة أسراها عند المقاومة، ولا حتى اختراق مكانة وثقة المقاومة، عند الغزيين. من يومها وإسرائيل تخوض حرباً غير متكافئة على جبهة غزة، شارفت على دخول عامها الثالث، ولم تنجح في تحقيق أيٍ من أهدافها المعلنة في هذه الحرب، بعد.
إسرائيل باستماتة تريد استعادة إستراتيجية الردع التي فقدتها، عن طريق خلق انتصارات وهمية على جبهات ذات خاصرة إستراتيجية رخوة، تعرف إسرائيل سلفاً، أن تلك الجبهات، قد توفيت «إكلينيكياً»، من الناحية الإستراتيجية، كونها حُيّدت ما يقرب من نصف قرن. استعراض الاستقواء على جبهات غير نشطة أمنياً، ليست من ضمن أي إستراتيجية ردع، تأخذ بها أي دولة.
مغامرات جيش الاحتلال العبثية على الجبهة السورية، على سبيل المثال: التي وصلت للعاصمة السورية، بما فيها استعراض الإنزال الجوي، وأخذ أسرى من الجيش السوري، ليست نموذجاً فعّالاً لإستراتيجية ردع حقيقية. قارن هذا، ضمن تقييم إستراتيجية الردع الإسرائيلية، ما أنجزته المقاومة الفلسطينية، في اشتباك مباشر مع الجيش الإسرائيلي، في منطقة الزيتون وصبرة، في مدينة غزة، يوم (الجمعة- السبت) الماضي.
إستراتيجياً: في حقيقة الأمر، فقدت إسرائيل إستراتيجية الردع، كأداة للتأكيد على واقع وجودها، على حساب أصحاب الأرض (الفلسطينيون).. أو كونها أداة للتوسع على حساب أمن وأراضي جيرانها العرب، دعك من تحقيق هدفها الإستراتيجي، بعيد المدى: (تزعم المنطقة)، إقليمياً.