: آخر تحديث

اللاجئون في بريطانيا ومرض الديمقراطية

3
3
3

تواجه الديمقراطيةُ في بريطانيا سؤالاً مصيرياً: هل حقوقُ الإنسان تتغيَّر حسب جنسيتِه أو لونِه أو معتقدِه؟! الإجابة تتفاوت حسبَ القناعات الآيديولوجية، والدينية، والظروفِ المحيطة. لكنْ في الغرب ثمةَ إجماعٌ على أنَّ المواطنَ حقوقُه أعلى من اللاجئ؛ هذا الإجماع ليس مبنياً على رؤية فلسفية، إنَّما على غريزة بشرية أنانية، حاول الإنسان عبر سنيّ تحضّره رميَها، لكنَّها بقيت عالقة تنتظر ظروف تُفجرها. هذا الإجماع تجسّد تطبيقاً في أميركا، والآن يتمدَّد في أوروبا، ووصل مؤخراً إلى بريطانيا. بريطانيا لديها نكهة خاصة لكونها إمبراطورية تعايشت مع المتغاير، والأجانب، ولا تزال تحافظ على دول الكومنولث؛ ولكونها ليبرالية حتى العظم، والليبرالية تنفي الفوارق في الحقوق، وتكرّس المساواة بوصفها قيمة عليا.

البركان ينفجر عندما تعجز قشرةُ الأرض عن تحمّل الضغط السّفلي. كذلك الهجرة غير النظامية تتحوَّل، بسبب ضغوط اجتماعية واقتصادية وثقافية، إلى بركان سياسي يهزّ بنيان الديمقراطية. ففي بريطانيا تأتي الضغوط من حزب الإصلاح اليميني المتشدد، الجديد، بسبب فشل الحكومات المتعاقبة من محافظين وعمال في وقف الهجرة التي تجاوزت العام الماضي نصف مليون لاجئ. ورافق هذه الهجرة تقلص اقتصادي، وخوف على الهوية من ثقافات دخيلة (إسلامية) تغيّر وجه بريطانيا التاريخي. وحزب الإصلاح خلاف بقية الأحزاب، لا يخجل من الجهر بمكنونات صدور كثيرين من الخائفين على هوية البلاد، وزعزعة تركيبتها السكانية، وجر مشكلات اقتصادية، وأمنية عليها. ويرى أنَّ سببَ فشلِ مواجهة الأزمة يعود إلى الإرادة السياسية للنخب الحاكمة، وإلى تجاهلها إرادة الناخبين؛ لذلك يطالب زعيم الحزب نايجل فاراج بوقف اتفاقية اللاجئين لعام 1952 لمدة خمس سنوات، لكونها تحظر إعادة اللاجئ إلى موطنه تجنباً لخطر يتهدّد حياته وسلامته، ويطالب كذلك بالانسحاب من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية وإلغاء قانون حقوق الإنسان البريطاني، وغيرها من القوانين والاتفاقيات. وبهذا الإلغاء لا يمكن للاجئ أن يحتمي بقوانين، والحكومة -آنذاك- ستقدر على ترحيله؛ ويقول فاراج إنَّه سيرحّل نحو أكثرَ من نصفِ مليون في غضون ستّ سنوات.

وبالعودة إلى إرادة الناخبين ترى الأكثرية البريطانية أنَّ وقفَ الهجرة مطلب ملحٌّ؛ وقد نجح فاراج بفرض هذا المطلبِ على الأجندة السياسية، وأجبرَ بالمشاهدة كل الأحزاب على الاعتراف بالعجز؛ فحزب المحافظين فشل، وحزب العمال رغم وعوده يتخبط في الفشل. ولتعزيز موقعه الشعبوي دعا حزب الإصلاح المواطنين إلى محاصرة اللاجئين في فنادق، بحجة أنَّ وجودهم يهدّد أمنَ النساء البريطانيات، وأنَّهم مرتاحون في فنادق أربع نجوم، في حين البريطاني مشرّد وبلا مأوى، والأكثرية لا تقدر على إجراء عملية؛ ويتساءل فاراج محرضاً: هل الحكومة مجبرة على الاستجابة لمطالب اللاجئ أم مطالب الناخب؟! وعندما سُئل إن كان يوافق على إعادتهم لبلادهم ليموتوا؟ رد بقلب بارد: لست قادراً على حل مشكلات العالم. هذا الرد يوافق هوى كثيرين، وينطلق من غريزة بشرية، أنَّ الناخب يهمه أولاً نفسه وعائلته ثم أبناء جنسه، وبذلك يسقط المعيار الإنساني المساواتي ديمقراطياً، وتتفشَّى مكانه القومية المنغلقة. والأحزاب حرصاً منها على كسب الناخب، للبقاء في السلطة، لم تقاوم هذا المنطق بل اعترفت ضمنياً به، وبالذات أنَّ اللاجئ عبءٌ على البلاد ويجب ترحيله، ودونما اعتبار لمصيره. فحزب المحافظين لم يكتفِ بتأييد هذا المنطق، بل اتَّهم حزب الإصلاح بسرقة أفكاره، وحزب العمال الحاكم لم يتفوّه مسؤولوه بنقد لخطط فاراج، بل حاولوا إظهار أنَّهم أكثر قدرة وتشدداً في ترحيل اللاجئين، ولذلك نصح اللورد ديفيد بلانكيت رئيس حكومة بريطانيا بتجميد اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية. ولم يعارض هذا النهج إلا يساريون متشددون، وحزبا الديمقراطيين الأحرار والخضر وجميعهم بلا خطة، وبلا شعبية كبيرة.

الشعب صاحب القرار في الديمقراطية، وفي الغرب تحوَّل القادة إلى منفذين لرغبات الشعب وليسوا موجهين له، ونسوا دورهم الأخلاقي بحماية الديمقراطية من الشعبويين. اليوم يوجد ساسة ولا يوجد قادة، ولذلك سخر اللورد إيرفن من الساسة قائلاً: «لماذا لا تتبنون دستور زيمبابوي وتتخلصون من هذه المشكلة؟». لكن مارغريت ثاتشر (بوصفها قائدة) قالت للذين حذروها من مخالفة أكثرية الشعب: «لقد انتخبوني لأقود لا أن أُقاد». ويدرك ساسة بريطانيا أنَّ إسقاط الحقوق الإنسانية، ورمي اللاجئين في بلدان نائية، ليس سهلاً، بل يتطلب موافقة الدول المضيفة، وإنفاق المليارات، وتغيير القوانين وإسقاط الضمانات؛ فالترحيل المقترح أضراره تفوق منافعه بأضعاف، لأن اليمين المتطرف ستنفتح شهيته ويطالب بترحيل من يصفهم بالأغيار، لكون ثقافتهم تغاير ثقافة البريطاني الأصلي. وهكذا تتحول الديمقراطية إلى سرك يُجهد السياسيين على إرضاء المشاهدين الذين تحركهم غريزتهم وليس القيم البريطانية السامية. وبهذا النمط من الساسة ستُصاب ديمقراطية بريطانيا بعلل منها: خارجياً تدمير سمعتها الديمقراطية وإيمانها بحقوق الإنسان، وداخلياً بإيصال شعوبيين للسلطة سيعوضون فشلهم بترحيل اللاجئين، وتحسين الاقتصاد، بتفرقة المواطنين، وتخريب الديمقراطية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد