: آخر تحديث

ما بعد «قمة ألاسكا»... التوازن المعقد بين مصالح متعارضة

2
2
2

«قمة ألاسكا» التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لم تكن، في اعتقادي، قمة عادية بروتوكولية أو مجرد محطة عابرة في مسار الأزمة الأوكرانية. لقد كانت نتاج جهود مضنية لكسر الجليد بين موسكو وواشنطن، بدأت بوضع اللبنات الأولى في فبراير (شباط) الماضي في الدرعية التاريخية، حين احتضنت السعودية لقاء روسياً – أميركياً رفيع المستوى، أسّس لمسار تفاوضي أعاد فتح القنوات المغلقة منذ أعوام، ومهّد الطريق لاحقاً إلى قمة عالمية. صحيح أن القمة لم تحقق وقفاً فورياً لإطلاق النار، لكنها رسمت بداية مسار مختلف، بحيث لم يعد ممكناً العودة إلى قواعد ما قبلها. وقد أعقبها مباشرة اجتماع ترمب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقادة أوروبا، في مسعى لإعادة تثبيت موقع كييف على طاولة المفاوضات وعدم تركها خارج الترتيبات الدولية. كما طُرحت احتمالات لعقد قمة ثنائية جديدة بين ترمب وبوتين، أو حتى ثلاثية تضم زيلينسكي، في مسعى للانتقال من هدنة هشة إلى تسوية قابلة للحياة. وإن كانت هذه الاحتمالات ما زالت موضع أخذ ورد، وسط تردد من الأطراف حول حدود التنازلات وضمانات التنفيذ. وبالتالي هذه الترتيبات ما بعد القمة تكشف أن الأزمة في أوكرانيا بدأت تدخل مرحلة «الدبلوماسية بالمراحل»؛ حيث لا يتعيّن انتظار «الصفقة الكبرى» أو اتفاق شامل دفعة واحدة، بل سلسلة اجتماعات متتابعة لاستكشاف هوامش المرونة وضمان الالتزام؛ خصوصاً بعد طرح ملف الأراضي مقابل ضمانات أمنية غربية.

هذا التردد من كل طرف في تحديد شكل القمة المقبلة يعكس المعضلة الأصلية، فكل طرف ذاهب إلى طاولة المفاوضات وفي ذهنه ليس ما جرى على الأرض فحسب، بل أيضاً الغاية الاستراتيجية التي من أجلها دخل الحرب. فروسيا بوتين دخلت الحرب لاختبار قدرتها على إعادة فرض نفوذها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. فالحرب بالنسبة لها ليست مجرد صراع أو نزاع على الحدود وضم مزيد من الأراضي، بل انتزاع اعتراف دولي بأن لأمنها «مجالاً حيوياً» لا يُمس، ومنع أوكرانيا من أن تصبح قاعدة لـ«الناتو» على تخومها. وعليه تخشى روسيا أن تترجم الصفقة إلى هدنة قصيرة لا ترفع العقوبات ولا تكرس مكاسبها كأمر واقع ولا تمنحها الاعتراف الدولي الذي تسعى له. في المقابل الكتلة الأوروبية ترى أن الأزمة أبعد من أوكرانيا ذاتها فهي في جوهرها دفاع عن المبدأ الذي يحفظ وجودها كمنظومة سياسية وقانونية. فأوروبا ترى أن القبول بتغيير الحدود بالقوة، هو سابقة بالنسبة لها ويعرض النظام الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية بالتصدع، وستتحول القارة إلى ساحة ابتزاز متواصل. وبالتالي فأوروبا تنظر بتوجس في أي حديث عن مقايضة أو تنازل عن الأراضي، فهو خطر يهدد وحدتها الداخلية، ويكافئ العدوان الروسي على حساب الشرعية الدولية. أمّا الولايات المتحدة فنظرتها إلى الحرب نظرة مختلفة تماماً، فهي لا تريد حرباً مستمرة تستنزفها في أوروبا وتشغلها عن الخطر الأكبر وهو الصين. وبالتالي فهي تسعى إلى الوصول إلى تسوية واقعية توقف الحرب والاستنزاف، وتحفظ وحدة الكتلة الأوروبية، وتمنع روسيا من تحقيق نصر مجاني، لكنها في الوقت نفسه تمنح واشنطن فرصة للتركيز لمواجهة «التنين الصيني». لكنها تخاف أيضاً من أن تبدو وكأنها تنازلت أكثر مما ينبغي، ما قد يضعف مصداقيتها أمام حلفائها ويعرّضها لانتقادات داخلية قاسية. بمعنى آخر واشنطن لا تبحث عن انتصار مطلق، بل عن «توازن يمكن إدارته». ومن هنا يظهر تفسير هذا التردد من كل طرف فكل طرف يريد اتفاقاً، لكن كل طرف يخشى أن يدفع ثمنه السياسي أو الاستراتيجي.

وفي هذا المشهد المتشابك والمعقد، اختارت دول المجلس تبني استراتيجية متوازنة تحفظ مصالحها مع روسيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية في آن واحد. وتتجلى مصالح الخليج والسعودية خصوصاً في بُعدين رئيسيين: استقرار الطاقة والأمن الغذائي. فأي تهدئة عسكرية أو تخفيف للعقوبات على موسكو سينعكس مباشرة على أسواق النفط، ما يجعل المنتجين الخليجيين جزءاً لا يمكن تجاوزه في معادلة العرض والطلب العالمية. وفي الوقت نفسه، يشكّل تحسين حركة الحبوب عبر البحر الأسود عنصراً حيوياً لمنطقة تعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد.

وأخيراً، يمكن القول إن قمة ألاسكا لم تنهِ الحرب، لكنها فتحت الباب لمرحلة أكثر تشابكاً وتعقيداً في إدارتها. فالتحدي الحقيقي، في تقديري، هو تحويل التوازن القائم إلى استقرار قابل للحياة. فأي توازن لا يراعي المصالح المتعارضة لكل الأطراف سيبقى مجرد هدنة هشة تسبق جولة جديدة من الصراع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد