: آخر تحديث

طريقة عبدالله بن مسعود في التغيير

8
9
5

محمد ناصر العطوان

«لا تغوصوا في المشاكل، ولكن ابحثوا عن البدائل»... هذه كانت طريقة عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، الصحابي الجليل في التعامل مع الشباب.

في لحظة فارقة، يحكي لنا الإمام الذهبي، في كتابه «سير أعلام النبلاء» كيف تُشعل كلمة طيبة شرارة التغيير، وكيف يُحدث التركيز على نقاط القوة تحولاً جذرياً في مسار حياة الإنسان، وتبرز قصة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، مع الشاب زاذان، نموذجاً خالداً لفن «البحث عن نقاط القوة» وتوظيفها في التنمية الإيجابية، خاصة مع الشباب.

فعن أبي هاشم الرماني، قال: قال زاذان «كنتُ غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور، فكنتُ مع أصحاب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم؛ فمر ابن مسعود، فدخل فضرب الباطية (إناء الخمر)، بددها وكسر الطنبور»، ثم قال «لو كان ما يُسْمَعُ مِنْ حُسْن صوتك يا غلام بالقرآن كُنتَ أنتَ أنتَ، ثم مضى». فقلتُ لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود؛ فألقى في نفسي التوبة، فسعيت خلفه أبكي، أخذت بثوبه، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى وقال: مَرْحَباً بمن أحبه الله، اجلس؛ ثم دخل وأخرج لي تمراً.

عزيزي القارئ، سواء كنت أباً أو معلماً أو داعية أو قائداً، أو حتى مديراً... تأمل القصة السابقة بإمعان، وانظر كيف يصور زاذان، المشهد بصدق.

كان شاباً «حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور» (آلة موسيقية)، غارقاً في لهو مع أصدقائه، يغنيهم وهم يتناولون النبيذ. وفجأة، يمر بهم عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه)، فيدخل عليهم ليس بغضب جامح فحسب، بل بفعل حاسم يهدم مصدر الغواية: «فضرب الباطية (إناء الخمر) بددها وكسر الطنبور». لكن التدمير المادي لم يكن هو جوهر الموقف عند ابن مسعود... فبعد هذا الفعل الحازم، التفت إلى زاذان، وقال كلمات محورية، لم تذم صوته، بل وجهته أعلى توجيه «لو كان ما يُسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنتَ أنتَ أنتَ!».

هذه الكلمات القصيرة كانت صاعقة نور، لم تُخبر زاذان، بأن صوته قبيح أو أنه إنسان فاشل، أو أن والديه لم يحسنا تربيته... بل أشارت بإعجاب ضمني إلى جودة صوته –نقطة قوته الواضحة– ثم رسمت أمامه صورة بديلة، مضيئة ومشرفة، لما يمكن أن يكون عليه هذا الصوت لو استُخدم في أعظم كلام وهو القرآن الكريم.

إنها مقاربة تحويلية، حيث تحويل الموهبة من مسارها السلبي إلى مسارها الإيجابي الأمثل. ثم سأل زاذان عن هوية هذا الرجل، فلما عرف أنه ابن مسعود، الصحابي العظيم، «ألقى في نفسه التوبة». لم يكن رد فعله خوفاً فحسب، بل انفتاح قلب وإدراك للفرصة الضائعة، فسعى خلف ابن مسعود، باكياً، وأمسك بثوبه. هنا، يظهر رد فعل ابن مسعود، الثاني، مكملاً لأسلوبه الإيجابي حيث لم يزجره أو يدفعه، بل «أقبل عليه فاعتنقنه وبكى وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس». ثم دخل وأخرج له تمراً، في فعل يرمز إلى الترحيب والاحتواء والتغذية الروحية والمعنوية.

لم تكن كلمات ابن مسعود، مجرد عظة عابرة، لقد وقعت في قلب زاذان، بثقل اليقين، لأنها لم تهدمه، بل بنته. لمسَت فيه جوهر إنسانيته وموهبته، وأرته قيمة نفسه الحقيقية.

يقول الراوي زبيد، وهو أحد الذين عرفوا زاذان، بعد القصة: «رأيت زاذان، فيما بعد يصلي كأنه جذع». أي ثابتاً، خاشعاً، لا يتحرك، غارقاً في عبادة خالصة. تحول الشاب الذي كان يضرب الطنبور ويغني في مجالس اللهو إلى نموذج للخشوع والثبات في الصلاة وأحد علماء المسلمين الكبار في الكوفة... ما الذي أحدث هذا التحول الجذري؟ إنها قوة الكلمة التي ركزت على نقطة قوته (حسن الصوت) ووجهتها نحو الخير (تلاوة القرآن)، مصحوبة بالاحتواء العاطفي (البكاء، العناق، الترحيب، إطعام التمر)، الذي أغلق باب اليأس وفتح باب الأمل والتوبة.

لذلك، فقد كانت رؤية ابن مسعود، التربوية هي مقاربة التنمية الإيجابية، التي نظرت فيما وراء الخطأ، فلم ير ابن مسعود، رضي الله عنه في زاذان، مجرد «فاسق» أو «مغنٍ»، بل رأى شاباً يمتلك موهبة قيّمة (حسن الصوت) لكنها حُرفت عن مسارها الصحيح، فركز على الإمكانية الكامنة وليس على السلوك الخاطئ فحسب، ولم يقل له: «صوتك سيء» أو «لا تغن أبداً». بل قال له صوتك جميل ثم وجهه نحو استخدامه في أعلى درجات الخير، وكانت جملة «لو كان... بالقرآن كنت أنت أنت» هي المحفز الأساسي والبديل الناجح، إنها كلمة تشجيعية، تثبت أن الكلمة الطيبة الصادقة التي تلامس نقطة القوة وتشير إلى الإمكانات، تقع في القلب وتحدث أثراً أعمق وأبقى من التوبيخ الطويل أو العقاب المجرد، وليس ذلك فحسب بل لم يكتفِ ابن مسعود بالكلمة الحكيمة، فقد احتوى مشاعر الندم والألم عند زاذان بالبكاء (إظهار التعاطف)، والعناق (إشعاره بالقبول)، والترحيب الحار («مرحباً بمن أحبه الله»)، والتقديم المادي البسيط (التمر) كرمز للرعاية. هذا المزيج من التوجيه والاحتواء النفسي هو سر نجاح التأثير في هذه القصة.

عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة! سواء كنت أُماً أو معلمة أو مديرة أو حتى صاحبة مشروع صغير... في عالم يسهل فيه التركيز على أخطاء الشباب ونقاط ضعفهم، تُذكرنا قصة ابن مسعود وزاذان، بقوة البديل الإيجابي، وأن «البحث عن نقاط القوة» ليس ترفاً، بل هو أداة تحويل جذرية. إنها دعوة للمربين والآباء والقادة والسياسيين والمشرعين أن ينظروا إلى ما في الشباب من طاقات كامنة ومواهب فطرية، حتى في لحظات ضلالهم وانحرافهم... حددوا نقاط قوتهم، ثم وجهوها نحو الخير والبناء بكلمات مشجعة ترسم لهم صورة مشرقة لأنفسهم في المستقبل. كما علمنا ابن مسعود، فإن كلمة واحدة، تركز على الإمكانية وتضيء الطريق نحو الخير، قد تهز القلب هزاً، وتغير مسار حياة إنسان من اللهو إلى الخشوع، ومن الضياع إلى أن يصبح «كالجذع» ثابتاً في طريق الحق... فهلموا نبحث عن نقاط القوة، ونضيء شمعة التوجيه الإيجابي، ففيها يكمن سر إطلاق الطاقات وبناء الأجيال... وكل ما لا يُرادُ به وجه الله يضمحلُّ، وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد