: آخر تحديث

الإعلام الجديد بين الأمانة والتضليل

8
4
4

شهدت المجتمعات الإنسانية في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في ميدان الإعلام، بعد أن خرج من انحصاره في عباءة الوسائل التقليدية، مثل الصحافة الورقية والتلفاز ونحوها، ليدخل عصراً جديداً، وهو عصر الإعلام الرقمي أو ما يعرف بالإعلام الجديد، وقد أحدث هذا التحول نقلة نوعية في طبيعة النشر والتأثير، وتوسيع نطاق مصادر المعلومات والآراء، لتخرج عن نطاق المؤسسات والمختصين، وتعم جماهير الأفراد الذين كانوا بالأمس المستهدفين في الإعلام التقليدي، وإذا بهم اليوم مصدر للنشر والإنتاج في إعلام جديد بات يشكل جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إعلام يصنعه الأفراد كما تصنعه المؤسسات.

 

وأخذ الأمر بعداً أوسع مع ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي، الذي بات اليوم أداة لتوليد المعلومات والمحتويات على اختلاف مضامينها وأشكالها، ما عزز ظاهرة الانفجار المعلوماتي، حيث تتزاحم ملايين الرسائل والصور والمقاطع يومياً على هذه المنصات، فيختلط الصحيح بالمزيف، والمفيد بالسطحي، والنافع بالضار، ومن أبرز التحديات قدرة المحتوى التضليلي على الانتشار السريع، خصوصاً حين يغلف بالإثارة أو يُقدَّم في قوالب عاطفية، وتزداد الخطورة حينما يتحول المستخدمون أنفسهم من دون قصد إلى أدوات لنقل هذا التضليل، عندما يشاركون منشورات أو أخباراً دون أن يتحققوا من صحتها.

 

ومن التحديات كذلك وخاصة بالنسبة للفئات العمرية الصغيرة ما يتعلق بخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي المتعلقة بتعزيز المحتوى، الذي يتماشى مع تفضيلات المتلقي، ما يعرض هؤلاء المتلقين بشكل متواصل لنوع معين من المحتوى بغض النظر عن مضمونه وفائدته، فيقعون في فخ هذه التفضيلات بمجرد بضع مقاطع جذبتهم بداعي الفضول أو غيره، فيتعرضون بشكل مكثف لمحتوى انغلاقي معين، والأخطر إذا كان ذلك متعلقاً بأمور مثل الدين والسياسة ونحوها.

 

إن تعزيز دور الإعلام الجديد في الارتقاء بالمجتمعات مطلب ضروري، يحتاج بجانب التشريعات إلى تعزيز القيم الأخلاقية والحضارية، التي تعزز مساراته الإيجابية، وبالأخص قيم الأمانة والنزاهة وروح المسؤولية العالية، فكل كلمة نكتبها أو نشاركها قد تؤثر على الآخرين إيجاباً أو سلباً، وهو ما يستدعي منا أن نكون أمناء فيما ننشر، وهنا تتأكد مسؤولية النخب الثقافية والدينية والمتخصصين في توجيه الناس نحو الاستخدام الأمثل لهذه الأدوات الجديدة، وترسيخ مهارات الفلترة العقلية، والقدرة على الاختيار الواعي، والتحلي القيم بالأخلاقية المثلى، فإن الذكاء الاصطناعي لا يملك بوصلة أخلاقية ذاتية، بل يستمد اتجاهه من البرمجة، التي يضعها الإنسان، ومن أنماط الاستخدام الجماعي، فجوهر الذكاء الاصطناعي التوليدي انعكاس لمنتوجات الفكر الإنساني وأنشطته.

 

كما يتأكد في هذا السياق دور الأسرة في التربية الإعلامية والرقمية الواعية للأبناء، وتعليمهم كيف يتعاملون مع الشاشات والمنصات الإلكترونية، سواء كونه مصدراً آمنا للمتعة أو الترفيه، أو أدوات تؤثر بشكل إيجابي في شخصيتهم ومعارفهم، ومن هنا يتكون المجتمع الإعلامي الواعي حين يُزرع في الطفل معنى الصدق وأمانة المعلومة والمسؤولية الرقمية.

 

كما يأتي دور المؤسسات التعليمية سواء المدارس أو الجامعات بتعزيز التربية الإعلامية الواعية لدى الطلاب، فجيل اليوم قد يتعلم من مقاطع الفيديو أكثر مما يتعلم من الكتب، ويتفاعل مع المؤثرين أكثر مما يتفاعل مع المعلمين، ما يجعل من الضروري تعليمه كيف يقيم ما يراه ويسمعه بعقل ناقد لا منقاد.

 

وما يعزز الدور الإيجابي للإعلام الجديد والذكاء الاصطناعي التوليدي ابتكار وسائل للاستثمار في هذه المنصات، بما يخدم جودة المحتوى، وتعزيز الوعي الرشيد، وتسويق المعرفة والأمن الفكري والصحة العامة والترفيه الهادف.. إلخ، ويأتي هنا دور المؤسسات الأكاديمية والمثقفين ورواد الأعمال والإعلاميين في بناء إعلام رقمي يربح ويُفيد في آنٍ.

 

أما على مستوى صناع الخوارزميات فإن ترسيخ الأمانة الاصطناعية ضرورة حتمية، لأن الحقيقة الهجينة أخطر من الكذب المباشر، لأنها مزيج من الحقيقة والتضليل، إذْ يكون جزء من المعلومة صحيحاً، لكنه يخلط بإضافات خطأ أو يستخدم ضمن سياق مضلل، ما يصنع منها وهماً قابلاً للتصديق، وقد وُجدت أمثلة عدة في بعض المجتمعات لمن خدعوا بمثل هذه الحقائق الهجينة ممن يفترض أنهم متخصصون في مجالاتهم فكيف بغيرهم.

 

إن ترسيخ الأمانة في الإعلام الجديدة ضرورة حضارية، ومسؤولية مشتركة، يبدأ بالفرد بتعزيز مهاراته في التحقق من المصادر، والتعرف إلى الانحيازات، التي قد توقعه في التأثر بالمحتوى دون تدقيق كالانحيازات العاطفية وغيرها، ومروراً بالمؤثرين في هذا الإعلام، الذين يتمتعون بالمصداقية، ليلعبوا دوراً إيجابياً في تدعيم المحتوى الآمن، وترسيخ ثقافة الأمانة والشفافية، وينتهي بالمبرمجين والمسؤولين عن أدوات الإعلام الجديد بمختلف أشكاله وأدواته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد