عبدالرحمن الحبيب
موضوع البيئة وتغير المناخ يثير التشاؤم بالمستقبل فضلاً عن كونه مملاً رغم أهميته المصيرية لمستقبل البشرية، إنما أحياناً يظهر من يتناول هذا الموضوع بطريقة مختلفة، وهذا ما فعله المؤرخ البروفيسور سونيل أمريث في كتاب من منظور تاريخي شامل، يتناول تاريخ محنة الأرض في سياق الاستغلال البشري عبر قصص نابضة بالحياة والشخصيات: قصص البيئة والإمبراطوريات والحروب والاستعمار، والإبادة الجماعية والإبادة البيئية، والتطور الزراعي والصناعي ويستكشف طرق النقل التي قادت البشر إلى ساحات جديدة من الصراع ضد بعضهم البعض وضد الطبيعة، مما أحدث تغييرًا في كل شبرٍ من الأرض.
«في قديم الزمان، كان كل التاريخ تاريخًا بيئيًا».
هكذا يبدأ السطر الأول من الكتاب وعنوانه «الأرض المحترقة: تاريخ»، ليعود بنا إلى البداية، قبل أن يُشعل العصر الصناعي حرائق هذا الكوكب بوقت طويل، إلى بدايات الحضارة نفسها في الوقت الذي كانت فيه معظم الأرواح البشرية تكافح من أجل البقاء، بدأ تحول العالم برغبة الحكام الأقوياء في علو الرتبة والتميز، في البحث عن الذهب والفضة واللؤلؤ، والسكر والبهارات وكلما صعب العثور عليها زادت قيمتها..
تبدأ سردية الأحداث الحاسمة بميثاق الغابة لعام 1217، الذي منح عامة الناس حقوقًا في غابات إنجلترا، ثم يستعرض الظروف المروعة في عمليات تعدين الذهب في جنوب أفريقيا ومناجم الفضة في بوليفيا إلى مناجم الكوبالت في الكونغو هذه الأيام لنرى ظروفًا مروعةً مماثلة مروراً باستخراج النفط في باكو.
يتناول الكتاب الإمبراطورية المغولية ومعضلتها كإمبراطورية: هل نستمر في الحكم كقوة بدوية، أم نتعلم حكم الأراضي المستقرة؟ وتتناول الفصول التالية توسع الإمبراطورية الروسية، ومعارك السيطرة على الأراضي والضرائب في الصين والهند، ثم تجارة الرقيق والاستعمار.
ويستعرض الكتاب كيف استُنزفت الموارد مراراً وتكراراً من خلال استمرار دورة الاستغلال والاستخراج عبر التاريخ وليست فقط نتاج العصر الصناعي، بل هي نتيجة لشيء أعمق بكثير؛ فمثلاً وصول الأوربيين إلى الجانب الآخر من العالم، متوقعين استنزافه والاستمرار في جني الأرباح واستهلاك بلا مسؤولية، لتكون نذيراً لما هو آتٍ.
قادت الرغبة والجشع الإيبيريين (البرتغال وإسبانيا) إلى الأمريكيتين بحثًا عن الثروات، حيث ارتكبوا موجاتٍ من القتل الجماعي، لدرجة أن أحد العلماء يعتقد أن التناقص السكاني المفاجئ أثر على المناخ، مما أدى إلى العصر الجليدي الصغير (انخفاض نسبي في الحرارة خلال فترة زمنية امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر).
وفي الفصل الخاص بالحرب العالمية الثانية يصفُ المجاعات المرتبطةَ بالحرب التي عانى منها السكان المدنيونَ في إندونيسيا وفيتنام والصين والهند؛ حيث لقي سبعة ملايين شخص حتفهم في هذه المجاعات، وكان عدد القتلى في كل دولة أعلى بكثير من بريطانيا.
من بين مشاريع أخرى، يُدرك أمريث عدم انفصال المعاناة البيئية عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعادات ومنها - وربما أهمها - الغذاء، وكتب: «إن التحول الجذري في أنظمة الغذاء أمر مُلح، ومن الصعب تصور نجاحه؛ فلا يوجد تغيير واحد يُمكن أن يُحدث تأثيرًا تحويليًا أكبر على صحة الكوكب من اختيار البشر تناول كميات أقل من المنتجات الحيوانية، حيث تتجذر تفضيلاتنا الغذائية في عدم الثبات. وقد أدت التغيرات في رغبات الطهي إلى تغييرات جذرية في كيفية استغلال البشر للأرض، واستغلال بعضهم البعض، والأهم من ذلك، في التاريخ الحديث، هو الذوق الأوروبي للسكر والخلائط الفاخرة.
في أوقات الحرمان، كما حدث خلال الحربين العالميتين، تغيرت العادات الغذائية فجأة. وهناك دلائل على أنها تتغير مجددًا استجابةً للمخاوف البيئية.» ويقول: لحل مشكلة تغير المناخ، من الأفضل لنا نحن القادرين على ذلك أن نغير ببساطة أنظمتنا الغذائية، ونغير الطلب، ونسيطر على صناعات بأكملها مصممة على تدمير الكوكب معها؛ فهذا عمل ممكن.
أيضاَ، يستكشف المؤلف السكك الحديدية والطرق السريعة وكيف أعادت تشكيل العالم من وجهة نظر مختلفة عما كُتب، ويفكك الرواية الغربية المعتادة، حيث يرويها من وجهة نظر العمال المهاجرينَ الصينيينَ الذين مدّوا السككَ عبر أمريكا، وكيف كان 90 % من عمالِ سكةِ حديدِ جراند باسيفيك صينيون.
وبينما يروي المؤلف محاولات البشر لاستخلاص قيمة من الموارد الطبيعية، فإنه يدرس أيضًا المواقف المتغيرة بشأن علاقتنا بالعالم الطبيعي، الذي لطالما اعتبرناه - خطأً، كما يجادل - منفصلًا عن جنسنا البشري، بدلًا من أن يكون متكافلًا معه.
في نهاية الكتاب، نصل إلى الحرائق، والفيضانات، وظهور أمراض جديدة، وبالطبع الكفاح من أجل كبح جماح انبعاثات الكربون وارتفاع درجات الحرارة، ليضع المؤلف هذه الأضرار في سياق التقدم البشري المتنامي موضحًا تداخل التقدم والكوارث على مدى الخمسمائة عام الماضية.
ورغم أن المؤلف يرى أن التقدم البشري كان جزءًا لا يتجزأ من الضرر البيئي، إلا أنه يقرر بأنه يمكننا النظر إلى هذا الأمر من منظورٍ آخر؛ فحلولنا لهذا الضرر البيئي جزءٌ من قصةٍ أوسع من النضالات البشرية، و»السعي لتحقيق العدالة البيئية يمتد ويبنى على تلك النضالات السابقة التي لم تُنجز بعد من أجل حرية الإنسان».
سونيل أمريث من سنغافورة، وهو وأستاذ كرسي للتاريخ في جامعة ييل الأمريكية.