عندما تجتمع الفوضى الاقتصادية مع ارتفاع البطالة والشعور الشعبي بالظلم، ويضاف إليها إيديولوجيا دينية أو قومية يصبح المناخ مهيأ لحرب عسكرية. أو لنقل العكس عندما تصبح الحروب العسكرية تدميرية ووحشية تسقط كل القيم الإنسانية وتسقط معها المسؤولية الاقتصادية وتشتعل حروب الاقتصاد. يكثر الحديث اليوم في الصحف العالمية عن الحروب الاقتصادية المُعلنة ما يدفع المحللين للعودة إلى دروس التاريخ.
في الثلاثينيات من القرن الماضي.. عرف العالم زمن الكساد الكبير وكان من تداعياته تكريس النازية بكل ما فيها من مجازر وحرق وتدمير لكل القيم الإنسانية.. وكانت تلك بداية الطريق إلى الحرب العالمية الثانية.
بدأ الكساد الكبير في أسواق المال الأمريكية، وتحديداً بورصة نيويورك عام 1929 في ما عرف باسم الثلاثاء الأسود في 29 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه. وجاء قانون سموت-هاولي (smoot-Hawley) القانون الذي فرض تعريفات جمركية مرتفعة جداً على مئات السلع المستوردة بهدف حماية الصناعة والزراعة الأمريكية من المنافسة، فكان لهذا القانون نتائج عكسية، حيث ردت بالفعل الدول بفرض تعريفات على المنتجات الأمريكية ما أدى إلى تراجع التجارة العالمية.
تضررت الكثير من الدول التي كانت تعتمد على التصدير ومنها ألمانيا.. التي سرعان ما تفشى فيها الفكر النازي وكأن الكساد الإنساني والفكري يأتي نتيجة حتمية للكساد الاقتصادي.. يَذكر لنا التاريخ أنه قبل الكساد كان الحزب النازي حزباً صغيراً لم يحظ بتأييد واسع، ولكن بعد الكساد بدأ الشعب الألماني يبحث عن حلول جذرية، وبدأ ينجذب إلى خطاب هتلر المُتطرف. وهكذا حقق النازيون عام 1930 مكاسب كبيرة وعام 1933 وصل هتلر إلى منصب المستشار وبدأت النازية تحكم ألمانيا.
يُذكر أن الناس في ذلك الوقت كانوا يعانون من الفقر والبطالة وفقدان الأمل فكان طبيعياً أن يبحثوا عن قيادة تعدهم بالخلاص وهنا ظهرت النازية كمنقذ في أعين البعض. وامتدت الأزمة المالية سريعاً داخل الولايات المتحدة وخارجها.. فكان تأثير الكساد مدمراً على كل الدول تقريباً الفقيرة منها والغنية، فقد انخفض متوسط الدخل مع انخفاض التجارة الدولية. كانت فترة فوضى اقتصادية وأخلاقية بين التلاعب في التعريفات الجمركية، وإغلاق المصانع، وتسريح الأعداد الكبيرة من العمال والتلاعب بأسواق المال.
اليوم مع كثرة الحديث عن مُزايدات التعريفات الجمركية.. تكثر المخاوف من العودة إلى زمن الثلاثينيات حيث كان للتعريفات الجمركية الأثر الكبير في جعل الكساد العالمي أسوأ، لأنها خنقت التجارة الدولية.. هذا بالإضافة إلى تزايد البطالة. وبالرجوع إلى أزمة عام 2008 وجائحة كورونا التي أثرت في الاقتصاد العالمي يتساءل المُراقبون: هل تُعتبر الأزمات الاقتصادية وراء صعود حركات التشدد والثورات الشعبية؟ حيث يُذكر أن ما يسمى «الربيع العربي» عام (2011) يعتبر مؤشراً آخر على وجود رابط ما بين الأزمات الاقتصادية وصعود حركات شعبوية قد تكون متطرفة ومتشددة، سببها مشاعر الغضب أو الخوف من التغيير أو الرغبة فيه.
وأيضاً نذكر عام 2020 حين ضربت جائحة كورونا الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ملايين فقدوا وظائفهم بعد أن أُغلقت شركات، فاضطرت الحكومة إلى طبع تريليونات الدولارات لدعم الناس، ورغم ذلك تزامن معها صعود التيارات العنصرية المتطرفة وانتشار شعار (أمريكا أولاً) وحملات ضد المهاجرين وضد العولمة وهو ما نراه متشابهاً اليوم مع تصاعد شعار (لنجعل أمريكا عظمية مجدداً) (MAGA).
تجتهد الصحف العالمية في المقارنة التاريخية للأزمات وما أفرزته من تداعيات، لتلافي الوقوع في نفس أخطاء الماضي التي قادت العالم إلى حرب عالمية. ويبدو واضحاً أن أمريكا تخاف من فقدان تفوقها.. هذا الخوف الذي يؤدي إلى ردود فعل دفاعية وعدائية خاصة تجاه الصين التي بدأ نجمها يلمع كقوة منافسة لها. وفي هذا كتب غراهام اليسون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد أطروحة جريئة مفادها أن أمريكا والصين تسيران في طريق محفوف بالخطر يشبه ما أسماه «فخ ثيوسيديدس» (Thucydides’s Trap) وهو نمط تاريخي يحدث عندما تصعد قوة جديدة (مثل الصين) بشكل سريع وتبدأ بتهديد الهيمنة القائمة (مثل أمريكا) ما يجعل الحرب بينهما احتمالاً حقيقياً.
أما «فخ ثيوسيديدس» فهذا الاسم مستوحى من المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس الذي كتب عن الحرب بين أثينا الصاعدة وأسبرطة المُهيمنة. في إشارة إلى الصين اليوم تساوي أثينا الأمس. يقول اليسون: «الصين تتقدم اقتصادياً وتكنولوجياً بشكل سريع وتطمح لتكون القوة العظمى وأمريكا تحاول من خلال اختلاق الأزمات الاقتصادية والتعريفات الجمركية لجمها ودفعها خارج المنافسة. الحرب العسكرية قد تكون الخطوة التالية للحروب الاستفزازية اقتصادياً فهي تزداد احتمالاً كلما أصرّ طرف على تحقيق مصالحه دون النظر إلى المخاطر». يتابع أليسون: «الذكاء لا يكفي لتجنب الفخ، بل الوعي بالتاريخ والاستفادة من دروسه وإعادة التفكير في أسس العلاقات الدولية».
وفي مُقارنة سريعة بين كتاب اليسون وكتاب (الانسجامات الاقتصادية) للكاتب فريدريك باستيا الذي يدعو إلى اقتصاد حر ويعتبره الحل الوحيد لتجنب الحروب.. نجد أن ما يجمعهما هو حقيقة أن السوق الحر هو بوابة السلام.. أما استخدام السيطرة الاقتصادية الفوقية والاقتصاد وسيلة للإكراه والضغط فهو بوابة الحروب التي لا يريدها أحد.