ليلى أمين السيف
دوماً أخوض نقاشا مع بناتي ينتهي بهذه الآية {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (إبراهيم: 34)
لم أحاول أبداً اقناع آية واحدة منهن بثبات يقيني ولكنني كنت أناقشهن بما هو فوق المنطق والقوانين والعلم.
كنت فقط أقول لهن: استعن بالله يعطيك ويغنيك ويكفيك وستجد أثر ذلك عليك في كل تفاصيل حياتك.
وكعادة الشباب فلابد من الجدال؛ حيث تبادرني ابنتي بالقول إنها عاجزة عن فهم قناعتي بإمكانية تحقيق كل أمنياتي وإنها لاتستطيع تفسير إيماني المطلق بأن كل ما أريده قد أُستجيب له.
أرد عليها بالمنطق الذي تعرفه أنه من المفترض أن البشر لايلجأ إلى الله سبحانه حين تمسه الضراء فقط بل وحتى حين تصاحبه السراء.
فتراه شاكرا لأنعم الله مادا يد المساعدة لمن يحتاج، وهذا مصداق لحديث الرسول الكريم: «إن الله يحب أن يُرَى أثرُ نعمته على عبده»
وأثر النعمة لا يكون بلبس الغالي والثمين، بل باعطاء كل ذي حق حقه والبذل لصالح المسلمين والإنسانية جمعاء؛ فهذا هو حديثك بالنعمة {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} بالعطاء وليس بالتباهي.
عودا على بدء. إننا نرى أن البعض تراه حزينا وآخر متسخطا وثالثا متشكيا وذاك نادبا سوء حظه وغيره نادما وهناك فقط من هو راض بما أصابه عالما أن الخير كله آت ويعلم تمام العلم أن دعاءه قد أُستجيب له لأنه لو لم يكن قد أُستجيب له لما وُفق في الدعاء بينما غيره لاه بالشُكى والبُكى وندب حظوظه وتفنيد قوانين بشرية تتغير في كل لحظة، سواء له أو عليه، فتجده يرهن عمره كله لها..
بينما بكل بساطة كان عليه منذ البداية أن يوجه بوصلة قلبه نحو إله رحيم لطيف بصير بخلقه {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}.
توجه إلى الله بكل ما فيك من فكر وقلب ومشاعر وإيمان {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
ذات يوم شكرتني إحداهن -حسب رأيها - على طيبة قلبي معها وكيف ساعدتها في موضوع يخص اللغة السويدية، فقلت لها لعلك أنت الطيبة وسألتِ الله فسخرني الله لك.
التسخير هو نظام إلهي محكم وضعه الله تعالى في هذا الكون، ليكون كل شيء في خدمته ووفق إرادته المطلقة. إنه تجلٍّ من تجليات رحمة الله وحكمته حيث جعل الإنسان محورًا لهذا التسخير، ليستخدم ما سُخِّر له في إعمار الأرض وعبادة الله.
يقول الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 13) يتفكرون يا سادة.
وفي الشعر العربي، عبّر العديد من الشعراء عن هذا التسخير الإلهي، كما قال الإمام الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء
وطِبْ نفسًا إذا حكم القضاء
وفي الواقع، فإن التسخير يبدأ بمجرد أن تسلم نفسك وأمرك لله.
التسخير الإلهي هو نتيجة مباشرة لتوحيد العبودية والاستسلام لله، فالعبد إذا أوكل أمره كله إلى الله ورضي بقضائه، استجاب الله له وفتح له أبواب التيسير والسعة، حيث وعد الله بذلك في كتابه العزيز {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 2-3)
وهذا يدل على أن التسخير يبدأ بالتوكل الحقيقي على الله واليقين بأن الله كافٍ لعبده،
قال ابن عطاء الله السكندري: «من كان الله معه فمن عليه؟ ومن كان الله عليه فمن له؟»
ومن الأدب العربي، يقول عمر اليافي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
لا تخشَ من بأس فأنت تُصان
وبكل أرض قد نزلت قفارها
نم فالمخاوف كلهن أمان
فالله إذا علم صدق عبده في الاستغناء به عن كل شيء، أغناه من واسع فضله، وسخّر له الأسباب والمخلوقات لتخدمه. التسخير إذا هو نتيجة طبيعية لتوحيد العبد واعتماده المطلق على الله، حيث يتحول الكون كله إلى معين وخادم لمن رضي بالله وحده غنى وكفاية.
تمعن في آي القرآن فكلها تدل على العطاء والتسخير {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} (البقرة: 115).
كن مستسلما لله منقاداً له متيقنا أن ما كان موصداً بالأمس سيكون لك أعظم معين اليوم، لتتيقن حقا أنه هو الرحيم العظيم والذي سبقت رحمته قدرته وجبروته {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 79).
فإنما هذا يعكس الاستسلام الكامل لله والثقة برزقه وتسخيره لما فيه الخير.
لا تنشغل أيها الإنسان بالهواجس فليس عليك سوى ان تؤدي ما عليك كما أُمرت وليس عليك أن تقلق على النتائج فتلك في علم الغيب يدبرها الرحمن.
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162 - 163).
أخيراً: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} (البقرة: 284).
كن صادقاً في قولك ويقينك فظاهرك قد لا ينبئ عن باطنك فقد تقول شيئا ولكن حين تقع الواقعة تتزعزع وتتزلزل لذلك تتساءل لِمَ ذاك الآخر قد نال ما نال رغم أنكما سواء ومع ذلك فحظه أجمل من حظك، وفي الحقيقة ذاك مايترأى لك في ظاهر الأمر ولكن في باطنه فهو مؤمن متيقن بنصيبه في هذه الحياة، وأن عليه السعي واليقين بألطاف الله. إذا لا تقل شيئاً وتؤمن بشيء آخر فسبحانه عليم بكل شيء.
الله معك طالما علمت وتيقنت انت أنه معك {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)
** **
- كاتبة يمنية مقيمة بالسويد