: آخر تحديث

في الحياة والبجاحة والطغيان

8
7
5

بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، دشَّنَ مؤيدوه حملةً شعارها «أنا أحب الحياة». جملة بسيطة من 3 كلمات من المفترض - لبديهيتها - ألا تأتي على بالك شعاراً لحملة. لن ترفع شعاراً يقول: «أريد أن أتنفس» أو «أشرب» أو «آكل»، إلا في مجتمع ملوث الهواء، أو شحيح الري أو في عوز ومجاعة. بهذا القياس فإن شعاراً يقول «أحب الحياة» ليس تصريحاً بالحب بقدر ما هو صرخة استغاثة من الفقدان.

والحياة لفظة ثرية في عالم الاستعارة. إن أمَّنْت أساسيات كالهواء والماء والغذاء فقد امتلكتها. والمنطق أن متع الوجود وثرواته مهما عظمت تفقد قيمتها إن فقدت الأساسيات. في الوقت نفسه، إن اختزلت حياتك إلى الأساسيات فقدَتْ قيمتها، وتحولَتْ إلى عبء، وفضلْتَ أن تتخلص منها، لا يحجزك عن ذلك شيء إلا الأمل في استعادتها. صارت حياة بلا حياة. وبالتأكيد، لم تعد الحياة التي تعنيها إن قلت «أحب الحياة».

وفي مجتمع لا يحب الحياة لن تجد مَن يرفع شعاراً بهذا المعنى. هذا صادم ومنفر. إنما تلمس كُره الحياة من ملاحظة السلوك. الخجل من الدعوة إلى نعيمها، في مقابل تبجيل السعي إلى ما لا يتأتى إلا بالموت. الوجل في مدح مساعي المتعة، في مقابل الاطمئنان في مدح مساعي الهلاك. الأولى لهو وانحلال وفسق وفجور... والثانية صمود وفداء وبطولة وتضحية. فكأنما تختلس الأفواه إلى الآذان طريقاً لا يمر بالعين، أو يغشيها عن رؤية الدمار، يحبب إليها مشاهد المآسي وينفرها من حياة المرح والسعادة.

ثم نعود ونقارن حياتنا بحياة أوروبا والدول المتقدمة، من دون أن نلوم أنفسنا مرة واحدة أو نواجهها بحقيقة أن ما نعيشه حصيلةُ أفكارنا مجسدة على الأرض. بل إن بعضنا إن ذهب إلى أوروبا أراد شدها إلى ما شدنا إليه من قبل. ولا داعي أن نذهب بعيداً. حتى المجتمعات الثرية في منطقتنا، القادرة على التمتع بالحياة، يشدونها هي الأخرى إلى حياة مختزلة، تحرمها مما يمكِّنُها الثراءُ منه. يريدونها أن تعيش معيشة الفقراء وتحاسب محاسبة الأغنياء، وأن تقتصر متع الحياة فيها على مضاعفة أساسياتها في الكم. مزيد من الطعام، مزيد من الهواء المكيف، والسوائل أشكال وأنواع. أما ذوقك في الحياة، فابحث عنه خارج البلاد. سافر آلاف الأميال.

إن عرضت هذين النموذجين على شخص عاقل فلن يتردد في تمييز الجميل من القبيح، والنعيم من الجحيم. إن جردتهما من الأفكار المسبقة سيبدو الأمر وكأنك تقارن قصراً بكهف، أو يختاً بعجلة طفو. لكننا دخلنا مربعاً ضيقاً، حظيرة سيق إليها المجتمع سوقاً، فلم يعد يرى الحياة خارجها. وفقد القدرة على تمييز السعادة من الشقاء.

والسؤال الواجب كيف. هذه في الحقيقة مهمة شاقة. كيف استطاعوا أن يقنعوا الناس أن «التوكتوك» أفضل من «المرسيدس»؟

الإجابات كثيرة. لكنني أعتقد أن السلاح الناجع كان اكتساب التبجح، وتعريفه تدريب النفس على البجاحة. يحتاج الإنسان إلى كثير منه لكي ينجز مهمة كتلك، لا سيما في عصر مكشوف مفتوح. والتبجح الذي أشير إليه نوعان.

الأول، التبجح المجتمعي. ضروري لاقتحام حياة الناس الخاصة، والتدخل فيما لا يعنيك، وادعاء الحق في ذلك. وقد اكتسب قوته من شيوع الفتوى كسلطة موازية للقانون. بها منحت فئة أفرادها سلطة الضبطية القضائية بتفسيرات دينية. وغلَّفت العقلية الرقابية الريفية بالدين، ثم نقلتها إلى الحضر.

والثاني، التبجح السياسي. لا يقل أهمية عن سابقه إذا السياسة حبل الأمم، تتسلقه إلى مكان أرقى، أو تكبل يديها وعنقها به. بالتبجح امتلك الإسلامجية الحق من دون غيرهم في المغامرة والانهزام، ثم ادعاء النصر، وإخراس مَن يصرخ بأن الحقيقة عارية وثوب الانتصار مختلق. وبالتبجح امتلكوا أن يكونوا جواسيس علنيين، يناصرون خصوم بلادهم في مزاحمة ثرواتها، أو تطويقها، ويتولون الدعاية لخططهم. ثم يدعون بعد هذا كله أنهم أصحاب صك الوطنية والحرية والاستقلال.

بين التبجح وطغيان الأسلمة علاقة دائرية. أدى التبجح إلى طغيان الأسلمة. وفتح طغيان الأسلمة للتبجح مزيداً من الأبواب. وكان نتاج تزاوجهما تطوراً خطيراً يكاد يقضي على الأمل، إذ تحول طغيان الأسلمة إلى أسلمة الطغيان.

شاهدنا هذا في دول حكمتها حكومات دينية، أو ميليشيات. فلم تختلف في سلوكها شيئاً عن سلوك الطغاة الذين حاربوهم وانتقدوهم. كل الموضوع أنهم بأسلمة الطغيان اكتسبوا للطغيان جمهوراً إضافياً، يملك من التبجح أن يبرر الأفعال نفسها التي يدعي أنه يعارضها. ما دام مرتكبها رفع شعاراً إسلامياً.

الطغيان سيئ في كل الأحوال، لكنه بلا دين، فعل بشري بإمكان البشر تغييره، فإن تحصن بالدين صار فعلاً مقدساً، يتقرب به الطاغية إلى الله، ويتهم مَن يعارضه بالصد عن سبيله.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد