: آخر تحديث

الثقـافـة ورهانات التنمية الإنسانية

18
17
20

تعتبر الثقافة رافداً أساسياً ضمن مقومات التنمية الإنسانية، وقد عرفت منظمة اليونسكو الثقافة باعتبارها تجسيداً لمجمل المعالم التاريخية والمتاحف وممارسات التراث الحي وأشكال الفن، ونظراً لأهميتها داخل المجتمعات فقد اهتمت بها حضارات قديمة، مما سمح بانتشار وازدهار العلوم والفلسفة والفنون المختلفة.لا يمكن للتنمية والديمقراطية أن يتحققا دون أساس ثقافي، فهي المرتكز الذي يعطي عمقاً واستدامة للمفهومين، وتعتبر الثقافة في الوقت الراهن عنصراً من مكونات القوة الناعمة التي تقوم على الجذب والتأثير، حيث توليها الكثير من الدول الكبرى أهمية بالغة. وفي مقابل ذلك، ما زالت الكثير من الدول النامية تهمل هذا الجانب الحيوي، مما ينتج عنه هدر كبير لأحد مقومات التنمية.إن التنمية حقّ وليست منّة، وهي تحيل إلى مجمل التحولات التي تطول المجتمع في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية، بالشكل الذي يضمن توافر الشروط اللازمة لحياة أفضل؛ وبما يحقّق التطور والرفاه للأفراد في جوّ من الكرامة الإنسانية وعدم التمييز.فالتنمية الإنسانية والمستدامة هي التي تستحضر الإنسان كفاعل ومستهدف، وهي التي تنحو إلى تحقيق الحاجيات الراهنة من دون مساس بمقومات حياة الأجيال المقبلة، كما أنها لا تتحقّق إلا في فضاء قوامه الحرّية واحترام الحقوق.ووعياً منها بأن كسب رهانات السلام العالمي؛ يمر عبر تطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان الحقّ في التنمية عام 1986.وقد أصبحت الكثير من الهيئات الدولية تضع مؤشرات عدة لقياس مستوى التنمية عبر العالم، ترتبط في مجملها بالحدّ من الفوارق الاجتماعية ؛ وتمكين الشباب والمرأة؛ وتطوير البنيات التحتية؛ ونظم البحث والتعليم، بالإضافة إلى ضمان الولوج إلى عدد من الخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية وكذا الحقّ في التكنولوجيا الحديثة؛ واستحضار ذوي الاحتياجات ضمن السياسات العمومية.وفي مقابل ذلك، واعتباراً لشمولية الإنسان التي لا تقبل التجزئة والانتقائية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية واجتماعية.. تزايد الاهتمام الدولي بالشأن الثقافي وإن كان الأمر أقل مقارنة بباقي الحقوق.وترتبط الحقوق الثقافية بشكل أساسي بالحق في التعليم والحق في حرية الفكر والتعبير والمساواة، والولوج بشكل فردي أو جماعي للثقافة بكل روافدها العلمية والتعليمية والفنية، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأشخاص المعدمين والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة في هذا الصدد.وهي تعتبر أيضاً من ضمن الحقوق الأساسية، التي تعزز حماية وتطور الإنسان، وتدعم وجوده وتسمح له بالتعبير عن أفكاره. وتعتبرها الأمم المتحدة من ضمن الأسس الهامة التي تعزز التنمية المستدامة.وتبرز إحصائيات صادرة عن اليونسكو أن القطاع الثقافي والإبداعي يوفر أكثر من 48 مليون وظيفة على المستوى العالمي، ولذلك يمكن القول إن عدم استحضار الثقافة في السياسات العمومية يمثل هدراً حقيقياً بالنسبة للدول والمجتمعات.إن الاهتمام بالثقافة هو مدخل أساسي لإضفاء الطابع الإنساني والحضاري على السياسات العمومية في إطار يزاوج بين الخصوصية والانفتاح على المحيط. وقد استطاعت بعض الدول كالصين واليابان أن تحقق مكتسبات في مجال التكنولوجيا وتحديث مجتمعاتها دون التفريط في المكون الثقافي بخصوصياته المختلفة.لا يحتاج الإنسان في حياته إلى المستلزمات الغذائية والمادية والتكنولوجية فقط، بل أيضاً إلى ثقافة تعطي معنى لوجوده، وقد أكدت منظمة اليونسكو أهمية الثقافة في تعزيز التنمية، فكثيرة هي البلدان التي عرفت بمثقفيها وكتّابها وفلاسفتها، وعديدة هي الكتب التي خدمت دولاً ومجتمعات ومناطق، وأسهمت في التعريف بعدد من القضايا.. كما أن الثقافة هي جزء مقوم أساسي ضمن عناصر القوة «الناعمة» التي تقوم على استثمار مختلف القنوات الفنية والروحية والعلمية والفكرية والرياضية في تحقيق المصالح المختلفة.إن كسب هذا الرهان هو مسؤولية جماعية تتحمل فيها الدولة قسطاً وافراً في هذا الصدد، من حيث إرساء سياسة ثقافية في إطار من المقاربة التشاركية المنفتحة على المثقفين والمبدعين، وتخصيص إمكانيات كافية لقطاع الثقافة، وتيسير الولوج للمرافق الثقافية بروافدها المختلفة، ودعم الإنتاج الفكري والإبداعي، وربط الثقافة بالقطاع الاقتصادي، وتحويلها إلى قطاع منتج وجاذب للاستثمارات وللسياحة وللإبداع في مجالات الصناعة والخدمات.ويمكن للثقافة أن تلعب دوراً مهماً في تجاوز الاختلالات المجالية، عبر إحداث مؤسسات ثقافية في الأرياف والمناطق النائية (دور الشباب ودور الثقافة ومعاهد فنية وموسيقية ومكتبات ومركبات متعددة الوسائط..)، علاوة على التعريف بالتراث بروافده الحضارية والإنسانية، وتحويل المهرجانات الثقافية والفنية إلى فضاءات للتسويق المجالي وجلب الاستثمارات والترويج للمنتجات المحلية، وترسيخ ثقافة مجتمعية تدعم الاهتمام بالثقافة وبمكوناتها المختلفة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد