ضاق الإقليم بصبره الاستراتيجي، فلم يتبقَّ في جعبته كثير من الانتظار. الأحداث تتلاحق، الأوراق تختلط، الغموض يزداد، صراع النفوذ والإرادات يتخذ منحى جديداً، كأنها دورة مصنوعة تطل علينا من عقد إلى آخر.
ما يحدث هذه الأيام من اغتيالات، وحروب مزمنة، هو طبعة جديدة من منهج قديم، يتجدد وفق تصورات المختبرات التي تعمل من أجل مصالحها الاستراتيجية. ربما مر الإقليم بهذه التصورات سابقاً، واستطاع التقاط أنفاسه، واجتاز المراحل الخطرة؛ لكن المشهد الحالي داخل الشرق الأوسط يبدو هو الأخطر، فلم يتبقَّ في قوس الصبر منزع، وباتت خرائط الإقليم تقيم على فوهة بركان، قد يثور بين حين وآخر.
ليس طبيعياً أن تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة ما يزيد على عشرة أشهر، وليس مقبولاً كل هذه الجرائم والمذابح، والإبادات الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وتدافع عنها أميركا، وتلتزم أوروبا الصمت حيالها، وليس طبيعياً أن تعتدي إسرائيل على سيادة الدول، وتخرق القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وترتكب جرائم على أراضي دول أخرى، وذلك من شأنه توسيع نطاق الحرب؛ بل بات الانفجار قاب قوسين أو أدنى.
سياسة الاغتيالات لن تفضي إلى الطريق الذي تعتقد به السياسة الإسرائيلية، فليس خافياً أن إسرائيل جرَّبت هذا المسار على مدى ثمانين عاماً، ولم تفلح في وأد القضية الفلسطينية، فمهما ارتكبت من اغتيالات فإن الشعب الفلسطيني سيبقى متمسكاً بدولته المستقلة، وبتقرير مصيره، ومن ثم فإن اغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة «حماس»، أو غيره من القيادات الفلسطينية، هو جرس إنذار يؤدي إلى تفجير المنطقة بالكامل؛ لا سيما أننا أمام قواعد اشتباك جديدة تستحق القراءة والتوقف أمامها: فاغتيال هنية في طهران جعل إيران تظهر مباشرة في ساحة المعركة، بدلاً من وكلائها في الإقليم، فإذا لم ترُد على إسرائيل فإنها ستفقد هيبتها في الإقليم، ولدى وكلائها، أما إذا ردَّت فإن الخطر سيكون غير معروف العواقب، فإسرائيل لن تكون وحدها كما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية؛ بل سوف تشتبك قوى غربية أخرى إلى جانب إسرائيل، وبالتالي تتسع رقعة العمليات، وقد لا تتوقف قريباً، وربما ترى بعض الأطراف أنها فرصة لإعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط.
التأثير الأخطر في حال انفجار الأوضاع، سيطول بشكل مباشر 5 دول عربية على الأقل، يتغلغل فيها النفوذ الإيراني، وستكون طرفاً طبيعياً في الحرب، أما التأثير غير المباشر فسيطول بقية الدول العربية، حتى تلك التي ترفض اتخاذ الشرق الأوسط مسرحاً لعمليات عسكرية مستمرة؛ بل إن هذه الدول تحاول تقديم استراتيجية مختلفة من أجل استقرار الشرق الأوسط، ومنع الحروب، وإعطاء القضية الفلسطينية ما تستحق، وشطب المخططات التي تقوم على تصفية هذه القضية.
مع الأسف، المتطرفون من جميع الاتجاهات يختطفون الشرق الأوسط، لإثبات صحة وجهة نظرهم. فلو تأملنا في السياسة الإسرائيلية فسنراها تميل نحو اتساع رقعة الحرب، وتصفية القضية الفلسطينية، واختراق حدود الدول السيادية، والعبث بالقوانين الدولية.
على الجانب الآخر، هناك دول إقليمية تريد تحقيق مصالحها، وترى في عداء إسرائيل ذريعة لتنفيذ أفكارها. تنظر إلى القضية الفلسطينية كجسر للعبور إلى النفوذ والسيطرة والإرادة في الشرق الأوسط. فسواء أكانت إسرائيل أم هذه الدول، فإن الطرفين يختطفان الشرق الأوسط إلى الهاوية، ويتسببان في استدعاء قوى أجنبية وغربية إلى أراضي الشرق الأوسط، لاستعادة تاريخ قديم قد يطول إلى الأبد، في حالة انفجار الأوضاع، بذريعة حماية المصالح الاستراتيجية الغربية.
ما الحل إذن؟
أعتقد أن مفتاح الحل يكمن في نزع فتيل الحرب، وإيقاف المجزرة الإسرائيلية في غزة، وإعطاء الفلسطينيين أملاً في المستقبل بأنه ستكون لهم دولة، وقبل كل ذلك منع استخدام القضية الفلسطينية في صراعات النفوذ بين القوى المختلفة، ودعم الفلسطينيين للوحدة الوطنية، وامتناع أي قوى خارجية عن التدخل في شؤونهم الذاتية.
وأخيراً في هذا الإطار، فإن مشروع الدولة الفلسطينية المعترف بها دولياً، هو واجب حتمي على مختلف دول العالم، من أجل تحويل الصراع الدموي إلى حوار تفاوضي. فلن تهدأ خرائط الإقليم والعالم من دون إطفاء الحرائق الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، تلك الحرائق التي تستدعي تيارات أخرى في الإقليم، للتدخل في مسارح العمليات بذريعة حماية القضية الفلسطينية، وبذريعة الدفاع عن المصالح الاستراتيجية في وجهة نظر الغرب.
إذن، هناك تحركات غير مسبوقة لتخريب الشرق الأوسط، ومن ثم فإنني أرى أن الإقليم يقف على أطراف أصابعه، ولا بد من حكماء يفهمون ما الذي يجب أن يكون قبل أن يقع الانفجار الكبير. وأعتقد أن هناك حكماء كثيرين يستطيعون انتزاع فتيل الانفجار قبل أن يحدث.