: آخر تحديث

في دلالات الانقسام المجتمعي المشرقي

16
15
23

عادت أخيراً، إلى واجهة المشهد اللبناني تلك النغمة القديمة المتجدّدة حول مشروعية فكرة تقسيم لبنان، ومعها بالطبع أطروحة الفيدرالية، أو الكونفدرالية، محمولة ومعزّزة بفكرة الاختلاف الهوّياتي، الديني والثقافي، في بلد شهد حرباً أهلية لمدة 15 عاماً، لم يتمكن اتفاق «الطائف» في عام 1989، من تجاوزها واقعياً، بل زاد من تكريس مقوّماتها، وأسبابها، من خلال ما عرف ب«الديمقراطية التوافقية»، التي أدت عملياً إلى محاصصة طائفية، لا تزال مفاعيلها قائمة، وقاتمة في الوقت نفسه.

من الناحية الجيوسياسية، يعاني لبنان مشكلة وجودية أساسية، تتمثّل في صغر المساحة الجغرافية، وحدوده البرية المحددّة، إذ تشكّل سوريا بوابة علاقاته مع العالم العربي وأوروبا، وأي تقسيم في لبنان، بغضّ النظر عن شكله القانوني/ السياسي، فإنه سينتج كيانات صغيرة، من حيث المساحة، وعدد السكان، والأهم من ذلك، انعدام، أو غياب شبه كلّي للموارد الداخلية، والتي هي بالأساس في حدودها الدنيا، ومع كلّ هذه الحقائق، التي لا تغيب عن بال أهل السياسة في لبنان، إلا أن بعضهم ينفخ في بوق التقسيم، باعتباره حلّاً لمشكلة الاختلاف الهوّياتي، وهذا النفخ في بوق، معروفة مسبقاً معزوفته النهائية، أي استعادة وإعادة إنتاج الحرب الأهلية، يجد صدى لدى بعض الفئات اللبنانية الشعبية، التي تعتقد، بحسب ما يروّج لها بعض السياسيين، بأن التقسيم هو المخلّص الذي سينقذها من أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية البائسة، ويجعل بيئاتها أكثر انسجاماً.

الانقسام المجتمعي الذي كان سمة لبنانية، أصبح سمة عامّة في دول المشرق العربي، خصوصاً في العراق وسوريا، إذ إنه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، أنتج العراقيون نسختهم السياسية الطائفية، وهي غير بعيدة في مضمونها وشكلها عن النسخة اللبنانية، فقد أقرّت الصيغة العراقية بالمحاصصة الإثنية والطائفية، وأصبحت هذه المحاصصة جوهر العمل السياسي، وولّدت معها دينامياتها الخاصّة، في المجالات القانونية، والاقتصادية، والمؤسساتية، والانتخابية، وأصبح العمل السياسي الحزبي رهن التحشيد الطائفي، في داخل كلّ طائفة، إذ تتنافس الأحزاب على أصوات أبناء الطائفة، من دون أن يكون لديها رؤية وطنية عامة، إلا من حيث الشكليات، لتجميل صورة البرنامج الانتخابي.

سوريا اليوم، من حيث الواقع العملي، مقسّمة إلى أربع مناطق نفوذ، لا تخفي في واقعها القائم حالة الانقسام المجتمعي، المدعومة بولاءات خارجية، إذ إن خطوط التماس بين مناطق النفوذ، رسمت بقوة التدخل الخارجي، وليس عبر إرادات محلية فقط، وكان واضحاً خلال السنوات الماضية، كيف تصاعدت في أحيان كثيرة، وتيرة خطاب الكراهية، المؤسس على الاختلاف الهوّياتي، لتكريس واقع الانقسام المجتمعي بين مكوّنات المجتمع السوري، وتفتيت رأس ماله الرمزي، وتحويله إلى جماعات أهلية، يرتجي كلّ منها كينونته الخاصة، سياسياً واقتصادياً، لكن، من الناحية العملية، فإن هذا الانقسام في جوهره، يحمل معه مخاطر التقسيم الكياني للدولة السورية نفسها، أو بالحدّ الأدنى منعها من أن تكون دولة موحّدة.

بعد خروج الانتدابات الأجنبية من بلدان المشرق العربي، كان معوّلاً على الدولة الوطنية الناشئة أن تؤكّد استقلالها من خلال بناء شرعية لها، مشتقة من الديناميات الداخلية، خصوصاً الديناميات الاقتصادية الاجتماعية، لكن عوضاً عن نشوء حالة استقرار تسمح بتفعيل الطاقات الاجتماعية في دورات إنتاج طبيعية، كانت هناك صراعات طاحنة على السلطة، ليس بالمعنى الحديث لمفهوم الصراع في الدول الديمقراطية، التي يحدث فيها تداول السلطة سلمياً، وإنما من خلال الانقلابات العسكرية، أو من خلال استئثار الطبقة العسكرية بالسلطة، الأمر الذي جعل الديناميات الاقتصادية تابعة للنخبة الحاكمة، التي قامت بضبط، ومعايرة الحركة الاقتصادية ضمن أطر محدّدة، لا تسمح بنشوء قوى سياسية تمثّل التنافسية في سوق العمل الوطني/ القومي.

وخلال عقود طويلة، ساد شكل اقتصادي هجين، قوامه الريع، إضافة إلى القطاعات الخدمية، كما في حالة لبنان، ما حال دون حدوث عملية تنموية مواكبة للتطوّر الديموغرافي، أو للتطورات في الاتجاهات الاقتصادية العالمية، ومن المستغرب بمكان، أن حدثاً سياسياً مثل سقوط نظام البعث في العراق، لم يفضِ إلى تغيير العقلية الريعية، إذ يجري استنزاف الموارد النفطية الكبيرة من دون أن تسهم في بناء الدولة والمجتمع، بل استخدمت العائدات الضخمة في تغذية مكانة ونفوذ الطبقة السياسية الطائفية، في الوقت الذي فشلت فيه الدولة العراقية في تأمين خدمات الطاقة الكهربائية لعموم العراقيين، في مفارقة تاريخية، لبلد من أهم البلدان المصدرة للنفط، لكنه لا يمتلك محطات كافية لسد الاحتياجات الوطنية من الكهرباء.

إن دور الطبقة السياسية، في سعيها للحفاظ على مكتسباتها ومكانتها، يقوم على منع نشوء اقتصادات طبيعية وحديثة، يمكن أن تولّد طبقة اجتماعية جديدة، ذات مشروع يتجاوز الانقسامات المجتمعية الإثنية والطائفية، وتغذية الانقسامات الإثنية والطائفية، وإظهارها كحقيقة واقعية لا يمكن تجاوزها، والمضي قدماً في تأسيس بنى دستورية وقانونية لحماية وتكريس هذا الانقسام، وجعله بداهة «وطنية»، وعوضاً عن أن تكون الدولة الوطنية فوق الانقسامات الهوّياتية، تصبح أداة لتكريسها، وتحويلها إلى أيديولوجيا، لها ممثلوها الحزبيون والبرلمانيون، فضلاً عن الميليشيات المسلّحة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد