هل للفلسفة قدرة أو أهلية للولوج إلى أزمات الواقع العربي الراهن؟ ذلك هو السؤال الذي حاولتُ الإجابة عليه خلال الندوة الفكرية المتميزة التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي ومعهد تونس للفلسفة في العاصمة التونسية، بحضور عدد هام من المشتغلين بالحقل الفلسفي من بلدان المغرب العربي. لقد بدا لي أن التوجهات الأيديولوجية التي طبعت الفكرَ العربي منذ الأربعينيات وتوطدت إثر قيام الثورات العسكرية القومية في سوريا ومصر والعراق، تمت أساساً خارج حقل التفكير الفلسفي. ومع أن الكثير من المفاهيم المحورية التي انتشرت في الخطاب السياسي العربي المعاصر لها خلفياتها الفلسفية العميقة (مثل النهضة والأمة والحرية والشعور والوعي.. إلخ)، فإن الحضور الفلسفي في تشكل هذا الخطاب كان محدوداً وهامشياً. لقد غاب عن هذا الخطاب السؤالُ المحوري المتعلق بالتنوير العقلاني والحداثة التاريخية، كما تم تغييب موضوع البناء السياسي المدني للدولة.
ومن هنا يمكن القول - دون مماحكة - إن الانفصام تفاقم منذ الأربعينيات والخمسينيات بين الفكر الفلسفي والسياق الأيديولوجي في الساحة العربية. لقد هيمنت على الفلسفة العربية أوانها الإشكالاتُ الميتافيزيقية المتعلقة بالوجود والذات والوعي المتعالي، في إطار التوجهات المدرسية التي عرفتها الساحة الأوروبية وقتَها (الوجودية والشخصانية والظاهراتية.. إلخ)، كما بدأ الاهتمام يتزايد بموضوعات الفكر العلمي مع نفاذ المقاييس الإبستمولوجية النقدية والمقولات الوضعية التحليلية. ومع إخفاق نموذج الثورة القومية الاشتراكية منذ نهاية الستينيات، عادت إشكالاتُ التنوير والحداثة إلى الفكر العربي ودخلت بقوة في الحقل الفلسفي مجدداً. وقد برزت هذه التحولات في ثلاثة أسئلة محورية هي:
- كيف يمكن إعادة بناء المشروع القومي العربي على أسس عقلانية رصينة، تُخرِجه مِن المسلّمات الأيديولوجية الهشة والخطاب الشعاراتي الممجوج، بما يعني إعادة التفكير في موضوعات الوحدة والهوية والمصير التاريخي.. من منطلقات جديدة؟ ومن أجل شق هذا المسلك الجديد، تم الرجوع إلى التقليد الهيغلي في استكشاف العلاقة الإشكالية المعقدة بين الذاتية الجماعية والزمنية التاريخية وبناء الدولة.
- كيف يمكن استيعاب المنظور الديمقراطي الليبرالي في صلب المشروع القومي الذي راهن على قدرة الزعامة الكارزمائية والعنف الثوري في تحقيق حلم الاندماج العربي؟ وما هي آثار هذا الاستيعاب المنشود على طبيعة تصور الدولة الوطنية وعلى نمط البناء الاستراتيجي الإقليمي؟ - كيف تمكن العودة إلى الإشكالات التأسيسية في موضوعات الإصلاح والتنوير والحداثة التي غطت عليها المسائلُ الأيديولوجية لمدة عقود من التجربة الثورية القومية؟ وقد خلُصتُ من خلال تحليل أزمات النظام العربي في أبعاده الداخلية والإقليمية إلى تلمسِ مهامٍ أربعٍ أساسية للفلسفة في السياق العربي مستقبلاً، وهي:
- إن الفلسفة من حيث كونها كما عرّفها هيغل «استبطان العصر بالمفهوم»، لا بد من أن تراعي محددات المرحلة الراهنة التي يعاد فيها تشكيل الوجود العربي في مقوماته السياسية والمجتمعية والتاريخية. وفي مثل هذه اللحظات التأسيسية يكون دور الفلسفة مضاعفاً من حيث هي ممارسة تصورية تستكشف الواقعَ وتسعى لتغييره في الوقت نفسه. - لقد استطاعت الفلسفةُ العربية المعاصرة التخلصَ إلى حد بعيد من إغراء الأيديولوجيات النسقية التي احتكرت المعنى وحددت بوصلة الالتزام السياسي والمجتمعي لمدة عقود طويلة. ولا شك في أن هذا المكسب النقدي قابل لأن يكون بدايةَ ديناميكية مراجعة عميقة وشاملة للنظام الفكري بكامله، وهو الدور الذي يمكن أن تضطلع به الفلسفة على نطاق واسع وجاد.
- إن فكرة العروبة التي شكّلت في النصف الثاني من القرن العشرين مرجعيةَ النظام الإقليمي وحددت مساراتِ العمل السياسي في البلدان العربية، ما تزال حسب اعتقادنا أفقاً صالحاً للاستكناه والممارسة. لقد أدت هذه الفكرة في السابق دورين تاريخيين هامين هما: دفع حركة التحرر الوطني من الاستعمار وبناء المنظومة الاستراتيجية الإقليمية المتناغمة مع المشروع الأفرو آسيوي. ومن الضروري اليوم شحن هذه الفكرة بدماء نظرية جديدة، قد يكون من بينها الأفق الفلسفي الواسع الذي دشنته النظريات ما بعد الكولونيالية التي أصبح لها حضور قوي في العالمين الآسيوي والإفريقي. - إن التفكير الفلسفي، وإن انطلق ضرورةً مِن خصوصيات الوضع العربي في أبعاده السياسية والمجتمعية، لا يمكن أن يتبلور نظرياً ومنهجياً إلا في الإطار العالمي الكوني. ذلك هو الدرس الذي استوعبته النهضةُ العربية الأولى في العصر الوسيط (التنوير العباسي حسب مقولة مروان راشد أو التنوير الكلاسيكي حسب مصطلح ليو شتراوس)، وهو الخيار الذي لا محيد عنه في المستقبل أيضاً.