هل من السهل أن يقابلك الحداثويون بحِلم معن بن زائدة، إذا قلت لهم: أين لهوكم ولعبكم من روائع الآداب والفنون الكلاسيكية العالمية؟
في عالم انفلتت فيه مقاييس النقد ومعايير الإحساس بالجمال، وموازين منظومة القيم الثقافية، واستولت فيه بروليتاريا الإبداع، على مقاليد سلطة الآداب والفنون معلنة دكتاتورية «الوكالة بلا بوّاب»، لك أن تتخيّل قلماً تبلغ به الرجعية، حدّ التشكيك في صدقيّة عدد كبير من التيّارات الأدبية والفنية، التي كانت زبداً جُفاءً حملته الموجات الحديثة والحداثوية والتجريبية. حتى عند انعدام المنطق السليم وإبطال المنهجية الأكاديمية ومجافاة الموضوعية، لا يجرؤ أيّ عاقل أن يقارن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، بأعمال الموسيقى اللّامقامية، كمقطوعات «مطرقة بلا معلم» للفرنسي بيير بوليز. لا يستطيع إلاّ الناقد الغشاش أن يضع موازنة بين أغاني أندريا بوتشيللي و«الهيفي ميتال» أو «الرّاب».
الآن، جوهر الموضوع. غاية القلم هي القول للمواهب العربية الواعدة: لا تغرّنكم مغريات الصيحات الأدبية والفنية ببهارجها وألعابها النارية. هل كان لائقاً بالشعر العربي، بكل مخزون القرون، الأفول مع قصيدة النثر، وانتحال موسيقى الشعر بقناع الإيقاع الداخلي؟ عندما يسمع المنجرفون إلى هذه الخاتمة المأساوية، يصرخون فرحاً: «يريد هؤلاء الماضويون إرجاعنا برجعيّتهم إلى أوزان الخليل». هذا افتراء على الفراهيدي، فالأوزان ليست بأوزانه. تلك ستة عشر إيقاعاً أبدعها العرب قبل الإسلام، ولم يدّعوا قط أنها كُتبت على الشعراء إلى الأبد.
هاتوا نبوغكم في الموسيقى والرياضيات، وعزّزوه بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، وابتكروا إيقاعات لم ينسج على منوالها شاعر من قبل. لكن، ليس من كرم أخلاق الإبداع أن يهدي إليكم الماضون البحور، فتستبْقون منها ستة، ثم تتخلّصون من الستّة. اقتصاديّاً، ليس من حسن الإدارة والاستثمار أن يرث الشعراء العرب ثروةً إيقاعيةً، يكون مآلها سلّة المهملات، مع استبخاسها وادعاء إفلاسها. يعني أن الزمن تجاوز شوقي والجواهري بقصيدة النثر الحداثوية، أن الزمن تجاوز محمد عبدالوهاب والسنباطي والرحابنة بالمفتريات على الأغنية العربية.
الطريف أن مفكرين فرنسيين كهربوا أوساط الفن الحديث بقولهم في شماتة: إن وكالة الاستخبارات الأمريكيّة كانت وراء صعود الفنون التشكيلية الحديثة، برفع أسعار لوحاتها، لأنها أدركت أن الانتصار في الحرب الباردة، يحتاج إلى حرب فنيّة ثقافيّة على الاتحاد السوفييتي!
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستدراكيّة: حين يرى أحد أن الانهيارات الثقافية العربية، ليست تلقائية، يُتّهم بأنه بلع طعم نظرية المؤامرة.