مرة بعد أخرى، وحقبة بعد أخرى، يَطرح سؤال الدولة الفلسطينية نفسه من دون أن تتبدى أية فرص ملموسة، أو خطط متماسكة على الأرض، حتى بدا الكلام كله أقرب إلى التهويمات المراوغة.
في الحرب على غزة، تأكد للعالم أنه لا يمكن إلغاء القضية الفلسطينية، أو القفز فوق جذور الصراع وأسبابه.
بإلحاح ظاهر، جرى الحديث مجدداً عن «حل الدولتين»، وأنه لا أمن ولا استقرار في المنطقة، من دون أن تكون للفلسطينيين دولة معترف بها دولياً، تعيش بسلام مع إسرائيل.
البحث عن حلول سياسية، من طبيعة ما بعد الحروب. المعضلة -هنا- أن إسرائيل غير مستعدة لتقديم أية تنازلات، قد يُنظر إليها على أنها اعتراف بالهزيمة في غزة، وأن ما لديها من فوائض قوة عسكرية ودعم أمريكي مفتوح، يمكّنها من تمديد العدوان، بذريعة تقويض «حماس»، واستعادة الأسرى والرهائن من دون أثمان باهظة.
برغم الانقسام السياسي والمجتمعي في إسرائيل حول أهداف الحرب والقدرة على تحقيقها، فإن الكنيست قرر، بما يشبه الإجماع النادر، رفض إقدام أية دولة في العالم على الاعتراف بدولة فلسطينية، أو أن تكون كاملة العضوية في الأمم المتحدة ك«خطوة أولى لاتفاقية سلام شاملة مع إسرائيل».
بدا ملفتاً أن (99) من (120) عضواً في الكنيست، صوتوا لمصلحة ذلك القرار. الكنيست كله، باستثناء النواب العرب ونواب حزب العمل، الذين تغيبوا عن تلك الجلسة الخاصة.
شبه الإجماع يعني المصادرة المسبقة لأية فرصة حل تعطي الفلسطينيين بعض حقوقهم المشروعة، وفق المرجعيات الدولية. بنص عبارة بنيامين نتنياهو: «إنها رسالة للمجتمع الدولي، ترفض أية إملاءات، أو أية خطوة أحادية، لكن إسرائيل تريد السلام على أن يتم التفاوض وجهاً لوجه بعد الانتصار على حماس».
لا يتسق حرف مع آخر، في تلك العبارة الملغمة. فهو يستهدف -أولاً- الحليف الأمريكي الأكثر إلحاحاً على حل الدولتين، من دون أن تكون لديه خطة معلنة. ثم إنه يعمم الرسالة حتى لا تفكر دولة أخرى في اتخاذ أية خطوة للاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد، قاصداً دولاً أوروبية بعينها أعربت عن ذلك التوجه.
يستهدف -ثانياً- تمديد العدوان على غزة، وتوسيع نطاق الحرب على الجبهة اللبنانية، بذريعة حماية أمن إسرائيل، المتهم هو نفسه داخلياً بالمسؤولية الكاملة عما جرى في السابع من أكتوبر 2023. إنه الضغط الإنساني والعسكري معاً لتخفيف شروط المقاومة الفلسطينية لعقد صفقة محتملة يجري التفاوض عليها.
إذا ما كان يطلب تقويض المقاومة المسلحة، فمع من يجري الحديث وجهاً لوجه؟
إذا كان هو نفسه يرفض أن تكون للسلطة الفلسطينية أية أدوار في خطة واشنطن لليوم التالي، فما المقصود بالتفاوض وجهاً لوجه؟
«الدولة.. يا رب». كان ذلك دعاء باكياً للزعيم الفلسطيني الراحل «ياسر عرفات»، وهو يمسك بستار الكعبة المشرفة، على ما روى ذات مرة المفكر القومي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة.
إثر الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي انفجرت بغضبها وحجارتها، في 8 ديسمبر 1987، تصورت أطراف دولية نافذة وعرفات نفسه، أن هناك فرصة ما ل«حل الدولتين».
في 15 نوفمبر من العام التالي 1988، أعلن عرفات من فوق منصة المجلس الوطني الفلسطيني، الذي انعقد في قصر «الصنوبر» بالجزائر العاصمة، دولة فلسطينية من طرف واحد.
استند إعلان الدولة، كما جاء في الوثيقة التي صاغها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إلى: «الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب الفلسطيني في وطنه وقرارات القمم العربية وقوة الشرعية الدولية وممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه».
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الفلسطينيون الاستقلال من طرف واحد.
إبان الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948، أُعلنت في غزة دولة باسم «حكومة عموم فلسطين» حسب قرار التقسيم، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة.
في ظل التحولات العاصفة ببنية النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جرت الدعوة عام 1991 إلى مؤتمر سلام في مدريد ضم دولاً عربية مع إسرائيل، لكنه لم يسفر عن شيء وجرى القفز إلى التفاوض السري في أوسلو والتوصل إلى اتفاق أنشئت بمقتضاه سلطة فلسطينية!
لم يسبق في التاريخ السياسي الحديث أن تولت حركة تحرير السلطة قبل أن تحرر أراضيها، وتعرف حدودها.
صممت «أوسلو» على نحو يسمح للاحتلال بالبقاء بأقل التكاليف السياسية، وألا تكون هناك في النهاية دولة فلسطينية. مزقت إسرائيل الاتفاقية التي وقعت عليها، توسعت في بناء المستوطنات، وبنت جداراً عنصرياً يمزق الأرض ويحيل ما تبقى من فلسطين التاريخية إلى أشلاء، ومع ذلك أخذ الفرقاء الفلسطينيون يتصارعون على أشلاء وطن وأطلال سلطة حتى وصلنا إلى الأفق المغلق الذي تصور معه كثيرون أن القضية الفلسطينية تكاد تكون قد دخلت دفاتر النسيان.
بانسداد الأفق السياسي، الآن أمام حل الدولتين، وشبه استحالة حل الدولة الواحدة، دولة كل مواطنيها، بالنظر إلى سياسات الفصل العنصري التي يتبناها اليمين الإسرائيلي المهيمن، فإنه من الأرجح أن تتجدد وتتسع الانفجارات، التي قد تشمل الإقليم كله، من دون توقف عن المراوغات الدبلوماسية باسم «حل الدولتين».