: آخر تحديث

يناير... الثورة والمؤامرة

62
62
49

ولنا أسبابنا التي نستند إليها في هذه التوصيفات ونعتقد بوجاهتها، وربما يشاركنا في هذا جزء من القراء. لكن قبل أن نخوض فى هذه الأسباب، يجدر بنا أن نذكر القارئ أولاً أنَّ الأحداث الكبيرة تولد كأجنة لا تتضح ملامحها إلا بالتقادم الزمني، وعليه، فلسنا بصدد إصدار أحكام على أحداث، لكنها محاولة للإدلاء بدلونا كاجتهاد متواضع في تفسير هذا الطلسم المحير للجميع، وخصوصاً وقد كنا فى قلب الحدث.

ثانياً، لنا تعريف بسيط للثورة، قد يشاركنا بعض القراء فى الاتفاق عليه، مؤداه أنَّ "الثورة هي الفعل الجماهيري الكثيف الذي ينتج عنه تغيير أشخاص أو أنظمة ثبت فسادها، ويكون لهذا التغيير أثر مجتمعي إيجابي على المدى الطويل". وما دام الطرح يتناول هذا الحدث بشقيه المتلازمين الثورة والمؤامرة، فعلينا محاولة الاتفاق على تعريف المؤامرة أيضاً، ونقترح هذا التعريف للمؤامرة ربما يوافقنا بعض القراء عليه: "المؤامرة هي فعل مزور مخطط له وممول مسبقاً من أشخاص أو كيانات من الخارج أو من الداخل لتحويل مسارات الأحداث لتصب في صالحها".

مما سبق، يتضح أننا نبحث في فعل لم تظهر بعد ملامحه الحقيقية، بالرغم من مرور هذه السنين، وأن هذا الفعل اختلف كثيرون في وصفه وتقييمه وتحليله. البعض قال بثورة، والبعض قال بمؤامرة، وآخرون، وأنا منهم، يعتقدون أنه في لحظة ما ــ سنتطرق إليها ــ تقاطع خط الثورة بخط المؤامرة، ونشأت لحظة فارقة حولت الحدث في مرحلة من مراحله إلى مركب شديد التمازج من الفعلين، بحيث لم يعد بالإمكان الفصل بينهما وقتها.

ونبدأ بالحديث عن الثورة، ونعود إلى الميدان الشهير الذي أصبح أيقونة الثورة كأكبر وعاء احتجاجي عرفته المنطقة، حيث توافد عليه، وبعفوية ودون سابق تدبير، جحافل بشرية تتألف بمعظمهم من الشباب، وبكل المقاييس لم يكن هؤلاء قطيعاً من الجياع هبوا من أجل ملء فراغ البطون، لكن هؤلاء كانوا شباباً من مستخدمي هذه الوسائل التقنية الحديثة ـ المكلفة نسبياً ـ وكانوا على الأقل من الطبقة الوسطى أو ربما هم الشريحة الأعلى منها. ونظرة سريعة على مظهرهم (مع ملاحظة مهمة وهي أنني هنا أتكلم عن الموجات الأولى لهذا التسونامي العجيب) ربما تعزز المقولة.

شيئ آخر أنهم لم يكونوا فوضويين أو سفهاء، بل كانوا منظمين واعين (لا زلت أتحدث عن الموجات الأولى)، وفي هذا السياق لا أجد حرجاً من أن ألوم نفسي، ففي مرحلة العقد الأول من الألفية، عندما كنت أرى تجمعاتهم فى أي مكان وأستطلع مظهرهم وأزياءهم وأسمع أحاديثم، كان اليأس يتسرب إلى قلبي. فهؤلاء احتشدوا بهدف واضح ومحدد وهو إسقاط نظام، ولو تمت الأمور فى هذا السياق العفوي، لكان لهذه الثورة شأن آخر مغاير تماماً لما آلت إليه الأمور. نعود لنؤكد أنَّ كل من يدعي أنه نظم أو جيش أو حشد لهذا الحدث الجلل فهو كاذب. كل ما في الموضوع أنَّ شرارة اندلعت وسط كومة هشيم مبللة بسائل سريع الاشتعال.

أما عن المؤامرة، وبعد أن ظهر للعيان أن ما يحدث ليس مجرد مظاهرة ستفرقها الشرطة بخراطيم المياه، وأن ثماراً أينعت حان قطافها، عندئذ خرج سكان السراديب، أصحاب مذهب التقية الخبيث، وكعادتهم تخلوا عن حليفهم النظام عندما رأوا أنه على وشك السقوط، ولحقوا بالقطار في محطته الأخيرة، وركبوه بأسلوبهم الاحترافي، وصدق بعض السذج خبثهم العميق، والبعض الآخر تحالف معهم  بمبدأ عدو عدوي صديقي، في الوقت الذي كان كل طرف يبيت للآخر إقصاءً عند أول فرصة.

إقرأ أيضاً: طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟

هذا عن المؤامرة... ونعود إلى المركب الناتج عن امتزاجهما، أي امتزاج الثورة بالمؤامرة، أو لحظة تقاطع خط الثورة بخط المؤامرة؛ فقد بدأ هؤلاء الذين لحقوا بقطار الثورة في محطته الأخيرة بإلقاء ركابه الأصليين من النوافذ، وبدأ العنف يطفو على السطح، وبدأت مؤامرات الإقصاء، وحانت لحظة الاستيلاء على الثورة  بالكامل حين استقدموا أحد مشايخهم من المنفى، في استدعاء لمشهد قدوم الخميني من باريس، ليلقى خطبة تدشين ومباركة عملية السطو، وهنا بدأ المصريون الذين خارج الميدان استشراف الصورة، لأنَّ الثوار داخل الميدان ربما، وبسبب الصخب، لم يعوا حجم المؤامرة، بالإضافة لتدخلات وتحالفات خارجية بدأت مظاهرها تطفو على السطح بقوة، حيث بدأ الرعاة في الخارج التدخل كل لحساب رعيته فى الداخل، وبدأت الخلايا النائمة المسلحة تنشط فى سيناء استعداداً لساعة الصفر التي بدا أنها قد اقتربت.

إقرأ أيضاً: هل يستحق الكردي الموت؟

وعندما فشلت عملية السطو الخبيث، تحولت لعملية سطو مسلح، وجرت في النهر دماء كثيرة، وجرى إجهاض جنين الثورة حفاظاً على حياة الأم التي تسمم حملها بسبب هؤلاء، ولنفس السبب أجهض جنين الثورة فى تونس، حيث لم يتوقعوا سيناريو الأحداث، واستفاق الرعاة على خطر ضياع أموالهم، فعدلوا خططهم فى بقية الأقطار، وسلحوا مفارزهم ورؤوس جسورهم ليقتنصوا أي غنيمة تحفظ ماء وجوههم الذى أريق، ودمرت سوريا واليمن وليبيا والسودان، ولم يقتربوا من الجزائر لخبرة جيشها في تجربة مشابهة سبقت فى التسعينيَّات، وإن كانوا قد حاولوا، ولم يحاولوا مع لبنان لأسباب خاصة نعد بمحاولة شرحها في طرح مستقل.

بالطبع، لا يمكن استيعاب ما يمكن أن يشغل مجلدات في مقال، لكنها محاولة للإجابة عن السؤال المحير: هل هي ثورة؟ أنا شخصياً أقول بملء الفم: نعم. وهل هي مؤامرة؟ وأجيب أيضاً بملء الفم وأكررهها: نعم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف