يقول سقراط: تكلم كي أراك. وهي عبارة على كل بساطة مفرداتها عميقة وقوية. في زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغير الاجتماعي تجد هذه العبارة السقراطية حضوراً قوياً. على تلك المواقع «التواصلية» يتواصل الناس ويتحدثون، كثير من الثرثرة بلا معنى، وقليل من المعرفة الحقيقية.
تلك المواقع التواصلية منابر افتراضية يعتليها كل من يريد أن يتحدث، وحين يتكلم كثير منهم نراهم، لا بمعنى الرؤية البصرية، بل بمعنى رؤيتهم، كما هم بلا تزويق ولا رتوش ولا محسنات من خلال حديثهم لا من خلال صورهم التي قد تكون تعرضت لكل فلاتر التجميل والتحسين البعيد عن الصورة الحقيقية.
مثلا، كنت أقرأ قبل سنوات لصحفي شاب مقالات في صحيفة يومية، لم أكن متابعاً له لكن بعض المقالات المسبوكة بعناية كانت تمر في قراءاتي اليومية فأجدني -مختلفاً أو متفقاً معه- معجباً ببلاغته وتمكنه اللغوي. إلى أن صرت أقرأه على مواقع التواصل الاجتماعي، بالأحرى صرت أسمع «افتراضياً» حديثه في العالم الافتراضي، يصرخ وينتقد ويتذمر ويسيء، واللغة لديه تتكسر بكل قواعدها وإملائها ومنسوب البلاغة معدوم رغم كل تكلفه في الصياغات. حينها.. رأيته كما هو. وبالضرورة رأيتُ ذلك المدقق المحرر الذي يعيد صياغة تلك المقالات في تلك الصحيفة التي كان يكتب فيها، لأفترضَ -في عالم افتراضي- أن البطولة كانت دوماً لذلك المحرر، ومن بعده المدقق اللغوي، وقد تجاوزا التحرير والتدقيق ليكونا كاتبين لكل تلك المقالات التي أبهرتني بلاغتُها.
هذا مثال من مئات الأمثلة التي يضج بها عالم الفضاء الإلكتروني الشاسع والواسع.
إحداهن، تنتج رواية أو روايتين، ومجموعةً قصصية مع كل ما يرافق ذلك من حفلات توقيع وصور متناثرة مع المعجبين وخبر صحفي عن حفل التوقيع وبعض «القراءات النقدية» الخالية من أي نقد حقيقي لهذا الإنتاج الأدبي. ألتقيها في زحمة التواصل الاجتماعي على صفحتها، فأقف لأستمع إلى حديثها «الافتراضي»، فلا أسمع إلا لغواً بلا معنى، ومصفوفةَ كلماتٍ منظومة كنظم مسبحة رخيصة الأحجار. والمدهش أن صورتها «الخاضعة لكل فلاتر التجميل» تجذب التعليقات بالمئات، لكن قلة فقط يرونها وهي تتحدث.. قلة فقط يسمعونها وهي تتحدث.
طبعاً هناك مَن يكتب أو «يتحدث» فيبهجك بمتعة حديثه أياً كان، لأن حديثه مبدع وفيه معرفة جديدة، لكن هؤلاء قلة في فضاء شاسع يضج بالمتحدثين. نعم، إنه فضاء افتراضي يتحدث فيه الجميع، ويفترض أن نستمع جيداً كي نراهم.
إنها فوضى لا يمكن تنظيمها بقوانين، فقوانين وأنظمة الواقع على الأرض لا تسري، ولا يمكن تطبيقها على هذا الفضاء الافتراضي الضخم، لكن يمكن بالوعي أن ننظم كل ذلك، بتحديد مَن نريد الاستماع إليه، لأنها فرصة كي نسمع مَن يتحدثون، فنراهم كما هم، لا كما نتخيلهم.
الثرثرة الزائدة في تلك العوالم الافتراضية الموازية معيار يمكن الاعتماد عليه، وكما قيل قديماً أيضاً: ليس كل ما يلمع ذهباً.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا