لماذا لم توجد في العالم العربي ولا حتى مدرسة ابتدائية، إعدادية، ثانوية، أو كلية، يتحدث فيها المعلمون والأساتذة عن اللغة كأعظم تكنولوجيا صوتية في تاريخ البشر، منذ ظهور الإنسان العاقل؟ الكلام في النحو والصرف والبلاغة لا يعدو أن يكون قطرة من بحر. ما أهون القطرة، بَخِّرْها بين إبهامك وسبّابتك، وأمطرني سحر بيان عن البحر.
كان القلم يريد طرح اللغة كعلم، فنهرته: ويحك، فمثل هذا التناول سيجعل النّحاة يمشون في الأرض مرحاً، متوهّمين أن الحديث يُساق إليهم، لكن لا بأس إذا قلتَ لهم إن العلم الذي نعنيه إنّما هو من قبيل الفيزياء، الكيمياء والأحياء. اللغة من صميم النظام الكوني وإليه. مثلاً: لماذا نجد في كل ألسنة العالم منطق الفعل والفاعل والمفعول؟ أليست هذه علاقات في معادلات رياضية فيزيائية كيمياوية؟ قد لا تجد أفعالاً في لغة كالصينية، ولكنك تجد البديل، المصدر الذي يلعب دور الفعل في تصريفه. هم لا يقولون: أنا ذهبت، نحن ذهبنا، يقولون أنا ذهاب، نحن ذهاب. السياق يشرح الماضي والحال والمستقبل.
تلك هي العتبة. قدمك لا تزال على رمال الشاطئ، فالبحر العميق بعيد. الخطوة الأولى على طريق الألف ميل من الإحساس بجمال اللغة، كعلم في نظام كوني، كتقانة صوتية تشبه مسرح الدمى، إنما هي تسبق بمراحل النحو والصرف والبلاغة. ثمة مستوى تأسيسي تنطبق عليه مقولة أينشتاين: «ثمة علم واحد هو الفيزياء، الباقي كله تفاصيل». صاح القلم: قف، ما قصّة مسرح الدمى؟ قلت لغات البشر جميعاً يحرّكها نظام واحد: اختر ما شئت من مخارج الأصوات للسانك، ضع توابل جغرافيا تأثيراتك، لكن ضمن معادلات قوانين نحوية وصرفية تجعل البشر جميعاً يفهمونك بوساطة الترجمة.