: آخر تحديث

وساطة سعودية مرجوّة

29
35
39
مواضيع ذات صلة

لا يبدو أن أمريكا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بقوته العسكرية الضاربة مقتنعون بالسلام في أو كرانيا أكثر من قناعتهم المترسخة بضرورة هزيمة روسيا وإذلالها بعد تكبيدها من الخسائر ما لا تطيق، وإلا لما شهدنا كل هذا الدعم العسكري والاقتصادي لتصعيد المواجهة وتأجيج مشاعر الروس والأوكرانيين وشعوب البلقان ضد بعضهم البعض، ولما شهدنا ردة الفعل الأمريكية والأوكرانية على مبادرة السلام الصينية المكونة من اثني عشر بنداً كان من المؤمل أن تفرض واقعاً جديداً على تطور الصراع بين روسيا والغرب لولا الرفض الأمريكي السريع الذي ما رأى من بنود المبادرة الصينية بنداً صالحاً إلا البند الأول الذي يُمكن أن يُقبل. هذه وقائع كلها ترتقي إلى مستوى العلامات الدالة على تبني أمريكا تصوراً استراتيجياً تصعيدياً لا نهاية له إلا تحقيق الحلم بتحطيم القوة الروسية وإضعاف مركز ساكن الكريملين. واضح إذًا، أن الإشارات التصعيدية الكثيرة من هنا وهناك في هذه الحرب الطاحنة تعزز الرأي القائل بأن نهاية عاجلة لهذا النزاع بات أمراً شبه مستحيل، رغم حجم الخسائر الهائل الذي تكبدته كل القوى المتورطة في هذه الحرب باستثناء أمريكا وشركاتها العملاقة طبعا، ورغم ما يمثله هذا النزاع من خطر حرب كونية داهمة لا يُمكن لأحد أن يتصور نتائجها الكارثية من دون أن يُصاب بالهلع والجزع.

 قناعة الغرب وحلف الناتو بالسلام في أوكرانيا مهمة، وهذا ما أدركته كل من فرنسا وألمانيا في بداية الحرب حينما أبقيتا منفذاً للاتصالات والتواصل مفتوحاً مع الكرملين؛ ذلك أن هم الذين من بيدهم مفاتيح الحل والعقد في القرار الأوكراني، وهم الأكثر تضرراً من هذه الحرب من الآخرين ويعرفون الثمن الاقتصادي والبشري العالي الذي ينبغي أن يدفع. غير أني أتصور أن هذه القناعة تبقى منقوصة وذات فاعلية ضعيفة إذا لم يكن من بين مكوناتها القناعة القائلة بأن روسيا لم تتخذ قرار بدء العملية العسكرية الخاصة حتى لتقرر الانسحاب هكذا من دون أن تحقق شيئاً من الأهداف التي دفعت قادتها إلى شن هذه، العملية العسكرية الخاصة التي تحولت بسرعة عجيبة إلى حرب ضروس، خاصة بعد كل الخسائر الجسيمة التي تكبدها الاقتصاد والجيش الروسيين في العدة والعتاد والأرواح، وهي القناعة ذاتها التي نجدها لدى الطرف الأوكراني ولكن مع تغيير في المواقع والأهداف، فأوكرانيا لن تقبل بحل لا يُعيد إليها ما ضمته روسيا من أراضيها، وما يضمن لها عدم تكرار ما حصل مرة أخرى.

 مع دخول الحرب عامها الثاني فإن كثيراً من غيوم التشاؤم حيال ما ستؤول إليه الحرب تتراكم، فشراراتها تتسع وليس ثمة بصيص أمل في الأفق يبشر بجلوس المتحاربين إلى طاولة المفاوضات لإحلال السلام وإنهاء ما يمكن أنه يكون سبباً في إشعال حرب عالمية ثالثة. يمكن لأمريكا ومن معها من دول الغرب، وهم الطرف الفاعل في بقاء الصراع متأججاً، أن تلعب وحلفاؤها دوراً في إحلال السلام، لكنهم ولأسباب جيوسياسية لا يرغبون في ذلك. هذه الدول، وهي اليوم تشكل حلفاً مع أوكرانيا يوحدهم هدف واحد وهو استنزاف روسيا، بل هزيمتها، وهي النتيجة التي لا أعلم حقاً لم يدارونها بكثير من الغموض! علماً بأن كثيراً من زعماء الدول الأوروبية يرون أن هزيمة روسيا صعبة، وإن حدثت فإن ذلك سيكون مقدمة لحرب نووية لا تبقي ولا تذر.

 كل الحروب التي شهدتها الدول لم تشعلها الشعوب، ولم تكن يوماً سبباً في زيادة إوار اشتعالها، ولهذا فإن شعوب العالم قاطبة تقف اليوم معارضة للحرب الأوكرانية والعنف الذي يعصف بالشعب الأوكراني وما يتهدد دول العالم من الآثار الكارثية التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الحرب. والحكومات، والحكومات الغربية على وجه الخصوص، تفسر معارضة شعوبها للحرب على أنها إدانة لروسيا بيد أن الحكومات التي تناصر روسيا تفسر معارضة الشعوب للحرب على أنها إدانة للحكومة الأوكرانية وأمريكا على السواء. لا أحد بريء في ساحة المعركة فكل الحروب والمعارك تقوم على قاعدة «اللي تغلب به العب به»!! والأكثر إثماً هم أولئك الذين يصبون الزيت على النار. وها هي روسيا في وسط هذا الكم من السلاح المنهمر على أوكرانيا بهدف إلحاق الهزيمة بها تسعى، مضطرة بلا شك، إلى تصعيد نبرات التهديد وإلى إشهار انسحابها من اتفاقية «نيوستارت» مما يفتح الباب امام احتمالات مرعبة لعل في أقصاها أقساها؛ أي الاستعمال الفعلي للسلاح النووي لإنهاء هذه الحرب اقتداء بما صنعته الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء الدور الياباني في الحرب العالمية الثانية.

 المسألة تقتضي من الحكومات المتحاربة وتلك التي تدفع باستمرار الحرب أن يحكموا العقل؛ لإيجاد مخرج من هذا المأزق الذي لا يبدو أن له مخرجاً وسطياً عادلاً يرضي جميع الأطراف المتحاربة؛ مما يعني الحاجة الماسة في هذا الظرف الدولي المشحون إلى وسيط على جانب كبير من الحياد يمكن له بوساطته أن يقرب الشقة بين المتحاربين ويضع حدا لهذا العبث الذي جعل العالم كله على فوهة بركان لا يعلم أحد متى تنفجر حممه فتأتي على الأخضر واليابس. ولعل المملكة العربية السعودية من خلال دبلوماسيتها الرصينة والوقوف مع المتحاربين على مسافة واحدة مهيئة أكثر من غيرها لأن تلعب دور الوسيط، وإن كانت المهمة صعبة للغاية. الإعلام لم يُظهر شيئاً بعد عن مساعي السلام السعودية ولكن هكذا هم السعوديون يقلون في الكلام ويكثرون في الأفعال العظيمة. فهل نرى في الأيام المقبلة دوراً سعودياً يُبعد شبح حرب عالمية ثالثة؟

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد