: آخر تحديث

لِماذا مؤتمر ميونخ للأمن؟

14
18
14
مواضيع ذات صلة

إنّ مؤتمر ميونخ للأمن "2023م" ليس إلا محطة جديدة من محطات السياسات الغربية التي تعلن عن طريقها للأهداف والتوجهات والسياسات والاستراتيجيات التي تؤثر تأثيراً مُباشراً في حركة ومُستقبل السياسة الدولية..

اعتاد الغرب خلال الثلاث مئة عام الماضية على المبادرة بالحديث الصريح والإعلان المباشر عما يتمناه، أو يتطلع له، أو يسعى لتحقيقه، أو يخطط للوصول إليه، من استراتيجيات وسياسات حاضرة ومستقبلية، بكل شفافية ووضوح. وهذا الاعتياد في السياسات الغربية مصدره الرئيس القوة الظاهرة والكامنة، والسعي الدائم للتفوق والهيمنة، والرغبة المتواصلة في إدارة السياسة الدولية، والخوف الشديد من العودة لعصور التخلف والتبعية للأمم الأخرى. إذاً، فالاعتياد نتاج لعملية مترابطة من المتغيرات والمؤثرات أدت بالضرورة لسياسات هدفها المحافظة على المكتسبات القائمة، وغايتها السعي الدائم لتعزيز هذه المكتسبات للمستوى الذي يجعل أصحابها الغربيين في الصدارة الدائمة على باقي الأمم والشعوب. قد تكون هذه الطروحات الفلسفية عن السياسات الغربية غير واقعية أو غير منطقية بحكم أنها غير مرئية أو غير محسوسة، إلا أنها هذه السياسات والاستراتيجيات الغربية في الواقع ظاهرة وقائمة وجلية وواضحة وضوحاً شديداً في المؤتمرات الدولية التي تستضيفها أوروبا تحديداً.

نعم، فأوروبا التي تستضيف المؤتمرات الدولية لا تملك رفاهية الوقت للاستضافة، ولا تُقر عبث الإنفاق المالي لتجامل الدول والمجتمعات، ولا تؤمن بالمصالح المُشتركة مهما كانت المُغريات، وإنما تستضيف لتوصل رسالتها الدولية، وتستقبل الوفود فوق أراضيها لتعبر صراحة عن سياساتها واستراتيجياتها الحاضرة والمستقبلية، وتنفق من ميزانياتها وأموالها لتكون مركزاً عالمياً يتحكم بمجريات ومسارات ومستقبل السياسة الدولية والعالمية. نعم، هكذا كانت مؤتمرات أوروبا في الماضي القريب، وهكذا هي مؤتمرات أوروبا في وقتنا الحاضر، وهكذا هو حال مؤتمر ميونخ للأمن 2023م، لتعبر جميعها عن سياسات واستراتيجيات السياسات الغربية الحالية والمستقبلية تجاه المجتمع الدولي بكل جلاء ووضوح. نعم، إننا نتحدث عن حقيقة أثبت التاريخ صدقها وثبوتها على أرض الواقع، وإنها الحقيقة التي ستُثبتها احداث السياسة الدولية مُستقبلاً إن قرأنا بهدوء وعمق ورويّة أطروحات ومخرجات مؤتمر ميونخ للأمن 2023م.

نعم، فأوروبا التي كانت مركزاً للسياسة الدولية قبل الحرب العالمية الثانية عقدت في 1884م، "مؤتمر برلين لغرب أفريقيا" لتنظيم التنافس الاستعماري الأوروبي في أفريقيا بالشكل الذي يضمن تحقيق القوى الأوروبية مصالحها في إطار من الوفاق ويجنبهم الصراع فيما بينهم. لقد كانت الدعوة لذلك المؤتمر عامة حيث شملت خمس عشرة دولة، ولقد كانت أهداف ذلك المؤتمر واضحة وجلية ومُباشرة، ولقد كانت نتائج ذلك المؤتمر مُعلنة للعالم أجمع، وقد أثبت الواقع اللاحق لذلك المؤتمر صدق الأهداف والنتائج عندما قُسمت جميع المناطق والأقاليم الأفريقية بين الدول الأوروبية لتبدأ حقبة استعمارية جديدة في أفريقيا عرفت سياسياً باسم "التكالب على أفريقيا" أدت لاستعمار جميع أقاليم القارة الأفريقية من الدول الأوروبية. نعم، لقد عُقد مؤتمر برلين لغرب أفريقيا ليعلن سياسات واستراتيجيات مستقبلية، وصادق المستقبل على صدق تلك السياسات والاستراتيجيات التي اعتمدت في المؤتمر. وأوروبا التي كانت مركزاً للسياسة الدولية قبل الحرب العالمية الثانية عقدت في 1938م، "مؤتمر ميونخ"، بطلب من الرئيس الأميركي روزفلت إلى ألمانيا، لتسوية الخلافات بين الدول الأوروبية بشكل سلمي، إلا أن ألمانيا لم تدع الاتحاد السوفيتي - كقوة أوروبية - لحضور المؤتمر. ولقد كانت الدعوة لذلك المؤتمر عامة لدول غرب أوروبا الرئيسة، ولقد كانت أهداف ذلك المؤتمر واضحة وجلية ومُباشرة، ولقد جاءت نتائج ذلك المؤتمر مُعلنة للعالم أجمع عندما اتبعت القوى تجاه ألمانيا "سياسة الاسترضاء"، وقد أثبت الواقع اللاحق لذلك المؤتمر صدق الأهداف والنتائج عندما توسعت ألمانيا على حساب باقي الدول الأوروبية حتى أدت للحرب العالمية الثانية. نعم، فإذا توصلنا للنتيجة القائلة بناء على النموذجين السابقين، بأن مؤتمر برلين 1884م، ومؤتمر ميونخ 1938م، أثبتا بشكل مُباشر مدى وضوح السياسات والاستراتيجيات والتوجهات الأوروبية تجاه المجتمع الدولي، فإننا نستطيع القول إن مؤتمر ميونخ للأمن 2023م الذي دعيت له معظم دول العالم باستثناء روسيا وإيران إنما عقد لتحقيق أهداف وسياسات واستراتيجيات محددة، وفتحت أبوابه الصغيرة والكبيرة لتعلن غايات وتطلعات وتوجهات الدول الغربية أوروبا وأميركا، الساعية لتنفيذها على أرض الواقع في المستقبل القريب والبعيد، فإذا وضعنا ذلك التاريخ في سياقة السياسي والاستراتيجي، فإنه سيدعونا بالضرورة للقول: لماذا مؤتمر ميونخ للأمن 2023م؟

قد تكون الإجابة السريعة عن ذلك التساؤل سهلة ويسرة بالقول إن مؤتمر ميونخ للأمن 2023م ليس إلا امتداداً لمؤتمرات ميونخ التي تعقد مُنذ العام 1963م، قرابة ستين عاماً من استمرارية الانعقاد، ما يعني اعتيادية الانعقاد وينفي أهمية المؤتمر. وهنا يجب أن نُقر بأن هذه النظرة السطحية للمؤتمرات الدولية، خاصة تلك التي تُعقد في الغرب حاضرة في الوجدان لدى الكثير من أبناء المجتمعات غير الأوروبية مما جعلهم يؤثرون الحضور الشكلي المصبوغ بالاستمتاع والاسترخاء وتغليب المنافع الشخصية على حساب الحضور العملي المصبوغ بالجدية والتفاني والأداء الهادف لتحقيق المصالح والمنافع العامة للمجتمعات. نعم، إن هذه النظرة السطحية الغالبة على الكثير من المجتمعات غير الأوروبية افقدت مجتمعاتها الفرص العظيمة التي تمكنها من الارتقاء وتجنب الخسائر والسلبيات المرسومة، وساهمت بجهلها العلمي والفكري في تشويه صورة مجتمعاتها وثقافتها وحضارتها بعدم قراءتها للأهداف والسياسات المعادية لها صراحة، وقادت بشكل مباشر لتعزيز سياسة التبعية للمجتمعات الغربية على جميع المستويات في كل المجالات. ولكن إذا ابتعدنا عن هذه النظرة السطحية لحقيقة المؤتمرات الدولية، فإننا نقرأ في مؤتمر ميونخ للأمن 2023م الكثير من الاستراتيجيات والسياسات الغربية تجاه المجتمع الدولي.

نعم، لقد عبر المؤتمر بداية عن أن الأمن هو الأصل في التعاملات والتفاعلات والسياسات الدولية والعالمية وذلك عندما حصر المؤتمر تحديداً بالأمن والدفاع. ولقد عبر المؤتمر صراحة عن أن المركز الفعلي والحقيقي والحصري لإدارة السياسة العالمية إنما يتمركز في الغرب، بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وذلك عندما تصدر قادة وساسة تلك الدول الغربية المشهد الخطابي والإعلامي بينما تراجع أو توارى الآخرون. ولقد عبر المؤتمر بجلاء عن وحدة الصف بين الدول الأوروبية تجاه المهددات الرئيسة القادمة من جميع الاتجاهات العالمية، ولقد عبر المؤتمر بوضوح عن الاستراتيجية المستقبلية الهادفة لتعزيز الأمن الأوروبي الجماعي تحت القيادة الأميركية لمواجهة التهديدات القادمة من جميع المناطق والأقاليم القريبة والبعيدة، ولقد عبر المؤتمر بشكل مباشر عن آلية وطريقة وشكل التعاملات المستقبلية مع روسيا على اعتبار أنها المهدد الرئيس للأمن والاستقرار الأوروبي، ولقد عبر المؤتمر عن التوجهات المستقبلية التي سوف تعمل عليها والمتمثلة بنشر القيم الغربية ومنها الليبرالية والرأسمالية وحقوق الإنسان، والتغير المناخي، والتنمية المستدامة، وأمن الطاقة، والاستقرار النووي، ولقد عبر المؤتمر عن أهمية أهدافه وسياساته واستراتيجياته العالمية بالشخصيات السياسية والبرلمانية التي شاركت بالمؤتمر، وبشكل خاص وفد الولايات المتحدة المكون من سياسيين وبرلمانيين تجاوز عددهم الخمسين عضواً. نعم، لقد عبر المؤتمر بجلاء مُنذُ انطلقت أحداثه حتى انتهت جلساته عن متانة وصلابة واستمرارية نظام القطبية الأحادية الأميركية لعقود قادمة، إنها تعد بعضاً من السياسات والاستراتيجيات التي جاء بها المؤتمر الأوروبي لعبر عن مستقبل السياسة الدولية.

وفي الختام من الأهمية القول إن مؤتمر ميونخ للأمن 2023م ليس إلا محطة جديدة من محطات السياسات الغربية التي تعلن عن طريقها للأهداف والتوجهات والسياسات والاستراتيجيات التي تؤثر تأثيراً مُباشراً في حركة ومُستقبل السياسة الدولية. نعم، إن المجتمع الدولي في حاجة ماسة لقراءة الأهداف والتوجهات والسياسات والاستراتيجيات التي تضمنتها مخرجات مؤتمر ميونخ للأمن 2023م، لتتمكن من التعامل معها باحترافية عالية تمكنها من مضاعفة مكاسبها وتجاوز سلبياتها ومهدداتها المُهلكة، وما يمكن قوله تجاه مؤتمر ميونخ للأمن 2023م، يمكن قوله تجاه مؤتمرات أوروبا الرئيسة سواءً كانت سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد