هل خطر على بالك السؤال: ما هي الآثار التي ترتّبت على نظر قدمائنا إلى الأدب على أنه «الأخذ من كل شيء بطرف»؟ لا شك في أن ما كانوا يعنونه هو ما نسمّيه اليوم الثقافة العامة، وليس بأيّ حال الإبداع الأدبي في شتى أشكاله وأجناسه. ليس معقولاً أن يقصدوا بذلك الشعر أو فن قمم الرسائل الأدبية في مستوى «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرّي.
كلمة «بطرف» تحديداً، صورة معبّرة تعبيراً واقعيّاً صادقاً ساخراً، أي من دون تعمق وإحاطة وإلمام. إذا طبّقنا ذلك على العلوم، فإن الأمور تقتصر على ما يسمّى أدبيّات العلوم. يمكن أن يفضي بك هذا المنعطف إلى اكتشاف أحد أسباب عدم ظهور البحث العلمي في جنبات العقل العربي. هي في الحقيقة مخمصة متشعبة في عيون الذين يتهيبون صعود الجبال. الحكمة المضادة لدى الشعراء كانت دائماً تحذّر من الأغوار والأعماق: «فيمَ اقتحامك لجّ البحر تركبهُ.. وأنت تكفيك منه مصّة الوشلِ»، أن تقنع من البحر بفقاقيع. توصي هذه التحف من الحكمة بأن تكتفي بشراء المنتج الجاهز وترك مقاليد الإنتاج في أيدي الغير. المستحب هنا إقناع النفس بأن إمساك الغير بزمام الإنتاج لا يعني التبعية بالضرورة، وما يترتب عليها من ألوان الابتزاز.
«بطرف» تجرّ سلسلة عواقبها غير الحميدة منظومة متشابكة. العقل الذي يتناول الأشياء من أطرافها، أي بسطحية في مستوى القشور، من غير المعقول أن تظهر في سمائه نجوم الفلسفة والعلوم والاكتشافات والاختراعات وتطوير جميع ميادين الحياة، وحتى الفنون الجادة، وأهم الأهم شؤون الغذاء ووسائل الدفاع عن الوجود والأوطان. هذان الركنان الحيويّان الوجوديان، لخّصهما القرآن الكريم في آية ذات عمق تشريعيّ دستوريّ: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (قريش4).
كما ترى، لم يبق في العمود مجال للخوض في غمار متتاليات تراجيدية، أو كوميدية إن شئت، لفتح الأبواب لرياح الجدال في أسباب استرخاء العقل العربي طوال قرون، على رمال الشاطئ زاهداً في منظومة الارتقاء الحضاري المتشابكة عضوياً منذ اليونانيين: الفلسفة والعلوم والفنون الجادة. الآن عليك أن تتكرّم بأن تنعم النظر في فراغات تلك الميادين وكيف تحولت إلى ثقوب سوداء في مكانة العرب في حضارة العصر الحديث.
لزوم ما يلزم: النتيجة التعمقية: رجاء تعمّق في هذه القضايا ولا تأخذها من أطرافها فقط، فمن ترك الأطراف يبدأ سبر الأعماق.
مفارقات الأخذ بأطراف الأشياء
مواضيع ذات صلة

