المنجي السعيداني
بمجرد وصولك إلى مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية، تستقبلك علامة مرورية، كتبت بحروف عربية خضراء ترحب بالزائرين.
يستقبلك أهل المدينة ببشاشة، كعادة أهل الريف... ولكن سرعان ما يتحول الترحاب إلى شكاوى، بمجرد أن يتطرق الحديث عن الثورة التونسية التي فجرها ابنهم محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 2010. الشكوى لا تنتهي من السياسة والسياسيين، من الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتردي، من القسوة التي يواجهها أهل المنطقة التي أهملها نظاما بورقيبة وبن علي، لمدة عقود من الزمن، وتواصل تهميشها بعد الثورة التي خيبت الآمال ولم تف بوعودها على حد تعبير من حاورتهم «الشرق الأوسط».
الزائر للمدينة يلحظ آثار تنهيدة طويلة، على وجوه السكان... وعلامات انتظار أطول لعناصر التنمية وتشغيل العاطلين، وهي عناصر كانت منتظرة خلال سنوات الثورة السبع الماضية. لا تشعر بأي وهج يوحي باندلاع ثورة من هذا المكان، ذات شتاء سابق. ثورة أربكت العالم وأطاحت بعدد من الأنظمة السياسية العربية... ولا تزال آثارها بائنة في كل أرجاء المنطقة. في مدينة سيدي بوزيد، تطغى مشاعر الغضب على كل مشهد، فالشعارات نفسها التي طالبت بالتنمية والتشغيل ما زالت محفورة على الجدران بما يوحي بعدم تغير شيء على الإطلاق. الحياة رتيبة هنا، وعقارب الساعة تدور ببطء شديد، ولا ترى حركة أو جلبة إلا أمام بعض المؤسسات العمومية على رأسها مركز الولاية (المحافظة)، حيث أحرق البوعزيزي نفسه احتجاجا على ظروفه الاجتماعية القاهرة.
يتجمع الناس في مقاهي المدينة المنتشرة... في ظل غياب الأنشطة الترفيهية الأخرى، ويسود كلام مكبوت بين الجميع: «الثورة قام بها الزواولة (الفقراء)، ولكنها عمقت من آلام الفقراء أكثر».
أما ساحة محمد البوعزيزي المكان الذي أحرق فيه جسده فهي كذلك تعج بالشباب الباحث عن عمل عرضي يقي به الفقر والخصاصة، فمنهم من اختار بيع الخضر والغلال، ومنهم من فضل تجارة الملابس المهربة أو الأكلات الخفيفة (بيع البيض المسلوق والساندويتش). ويخشى الناس هنا من إعادة السيناريو نفسه في أي لحظة، فالأسباب التي دعت البوعزيزي إلى حرق نفسه ما زالت قائمة، وربما تعمقت أكثر خلال السنوات السبع الماضية.
يقول عطية العثموني، وهو ناشط سياسي، لـ«الشرق الأوسط»: «لقد ذقنا الأمرين في عهد بن علي... لاحقنا البوليس السياسي وأذاقنا أنواعا من العذاب، ولكننا تماسكنا وتمسكنا بخيط الأمل، إلى أن جاءت القشة التي قصمت ظهر بعير نظامه. تفاءلنا خيرا وانتظرنا الكثير من وراء الثورة. (يصمت قليلا ثم يهز رأسه إلى السماء لتخرج تنهيدة قوية من أعماقه)... لكن الأمل خاب». ويصب جام غضبه وسخطه على الساسة والسياسيين «فهم غنموا المناصب ونسوا الفقراء ومن قادهم إلى تلك المناصب».
ذكرته بصوت هادئ عله يخفض من لهجته الثورية، بأن الحكومة وعدت ببرنامج للنهوض الاقتصادي خلال السنة المقبلة، لكنه لم يبد أي اهتمام لذلك، وحسب قوله فإن «كل الوعود تتبخر في أول تجربة عملية... وكل المحاولات في إحداث التنمية المرجوة باءت بالفشل، ولا ندري كيف سيكون المستقبل». ويضيف: «النتائج الاقتصادية المحققة والخوف من عدم صرف رواتب التونسيين عند نهاية كل شهر، تبين الصورة المتوقعة».
النغمة المتشائمة هي أسلوب واحد بين معظم السكان... ويذهب البعض إلى القول «إن الواقع الاجتماعي والاقتصادي قد لا يتغير في سيدي بوزيد وغيرها من المدن التونسية... حيث لا يوجد نور على طول أو في آخره». الشافعي السليمي وهو إعلامي من سيدي بوزيد، يقول: «لا يمكننا أن نتحدث عن تغييرات قد تتحقق، فالأمر في حاجة إلى رجة نفسية قوية، ولكنها هذه المرة قد تكون أكثر شراسة مما وقع سنة 2010، فالغضب والاحتجاجات تكاد تكون يومية أمام مقر الولاية وفي كل المدن المكونة لهذه المنطقة على غرار منزل بوزيان وبني عون وجلمة والرقاب والمكناسي، وهي من بين أهم المدن التي أسهمت في إسقاط النظام السابق، ودفعت ثمن ذلك من دماء أبنائها». ويضيف: «لقد عملنا في ظروف صعبة خلال عهد بن علي، وكان ينقصنا حرية التعبير في ظل واقع اجتماعي تدعمه الدولة بكل الوسائل، أما الآن فلنا حرية التعبير، ولكن لا شيء أبعد من ذلك».
عبد الرحمان البراهمي، وهو أستاذ متقاعد، يشير إلى أن «مؤسسات اقتصادية كثيرة، أغلقت أبوابها بعد اندلاع الثورة، كما تم إهمال شركات فلاحية منتجة تابعة للدولة، فأصيب الشباب بخيبة أمل، وهو يرى أحلامه تحترق أمام عينيه، وتزامن ذلك كله مع ارتفاع مستمر في أسعار كل المواد الاستهلاكية، وهو ما أثقل كاهل فئات عريضة من التونسيين، وهذا ملحوظ أكثر بين الفئات الاجتماعية الفقيرة».
وتقول السلطات إنها تستعد لإنشاء مصنع للإسمنت، ومشروع لاستخراج مادة الفوسفات، بمنطقة المكناسي، وهي مشاريع في طور الدراسة وقد تجد طريقها نحو التنفيذ، ولكنها خطوة تبدو صغيرة، وسط مطالب جحافل العاطلين عن العمل ولا تلبي طموحات الآلاف منهم.
مسعود الرمضاني، رئيس المنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة حقوقية مستقلة)، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك شعورا عاما سائدا بالإحباط، فالبطالة والتهميش الاجتماعي تفاقما بعد الثورة ولم تجد البلاد توازنها إلى حد الآن... وأن معظم الاحتجاجات الاجتماعية يطغى عليها الطابع السلمي، حتى الآن... إلا أن الأمور قد تخرج عن السيطرة في حال عدم فتح آفاق فعلية أمام المحتجين». وأضاف: «العقدة لا تكمن في مشاريع البنى التحتية والإصلاحات الاقتصادية التي أخذت الدولة في إنجازها، وإنما في توفير عوامل غير اقتصادية من شأنها أن توفر الأمن وتعيد الاستقرار وتسترجع ثقة المستثمرين». في سيدي بوزيد التي يقدر سكانها بنحو 420 ألف ساكن، ترتفع نسبة الأمية في المحافظة إلى حدود 29.2 في المائة، فيما تقدر نسبة البطالة بنحو 17.7 في المائة (معدل وطني بنحو 15 في المائة) ويمثل خريجو الجامعات ومؤسسات التعليم العالي 57.1 من إجمالي العاطلين، وهو ما يجعل العبء ثقيلا على أي حكومة تونسية تأخذ بزمام الأمور.
هنا في سيدي بوزيد، يسود إحساس بأن «الثورة أكلت أبناءها»، ويسر إليك بعض الشباب أن ثورة أخرى مقبلة على مهل، وهي تنتظر أسباب اندلاعها من جديد، وهو ما تشير إليه أحزاب سياسية معارضة وعدد كبير من المنظمات الحقوقية والاجتماعية.