يبدو أن المعارك الطاحنة في "صولة" حماس الأولى، و"جولة" إسرائيل المستمرة، فتحت شهية المراقبين على الخوض في أبعاد هذه الحرب الاستثنائية، ومحاولة استقراء التحولات التي ستصيب المنطقة سياسياً وأمنياً على الأقل.
فمنذ أعلنت القسّام -الجناح العسكري لحركة حماس- عن هجومها "القاتل" ضد إسرائيل، شهدنا الكثير من الأحداث، وسمعنا الكثير من التساؤلات، التي ستظل حاضرة في النقاشات الشعبية والإعلامية والسياسية والاستخباراتية لمدة طويلة.
لكنّ الواضح أن هذه الحرب حبلى بالمفاجآت، وكان آخرها: إعلان كتائب القسّام عن إطلاق سراح رهينة إسرائيلية وطفليها.
حماس بين العسكر والساسة
قبل الوصول إلى هذا الإعلان المفاجئ الذي نقلته قناة الأقصى الفضائية، ومسارعة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، إلى وصف حماس بـ "البربرية" والفيديو بـ "الدعائي والمسرحية"، وأن "الحقيقة سوف تتضح معالمها أكثر في الأيام المقبلة"، على حد وصفه.
هناك ملامح سنحاول تتبعها وفهم تحولات وعيد الناطق باسم القسّام أبو عبيدة، من إعدام الرهائن إلى إعلان الإفراج عن ثلاثة منهم.
لقد كان صادماً ظهور القائد العام لحركة حماس محمد الضيف في الساعات المبكرة من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الثاني، وإعلانه "طوفان الأقصى".
لكن ومع بدء استيعاب أهوال الحدث، وتَفرّق غبار المعركة، كان من الممكن ملاحظة قلة التنظيم أو ربما العشوائية التي وثّقتها المقاطع المصورة للتحركات البشرية عند السياج الفاصل وحتى طريقة العودة بالرهائن إلى القطاع، فضلاً عن التفاعل "العفوي" من قبل قيادات حركة حماس الذين كانوا يتابعون المجريات عبر شاشات التلفزة، كحال الناس العاديين.
وهذا ما أعطى انطباعا -ساندته لاحقا تقارير صحافية- عن أن العملية تمّت على مستوى شديد السرية، لدرجة أن المعلومات الدقيقة لم تكن بحوزة الجهاز السياسي، بل وربما اقتصرت على عدد محدود من مسلحي الجهاز العسكري.
حتى الآن، تظل الأمور ضمن السياق، لكنّ أبو عبيدة الناطق باسم القسّام فجّر مفاجأة في ثالث أيام الحرب، عندما خرج مهدداً بإعدام الرهائن المدنيين فيما لو استمر قصف المدنيين في غزة دون سابق إنذار.
شكّل هذا الإعلان منذ أولى لحظات إعلانه، جدلا في الشارع العربي، وصدمة قوية في العديد من الأوساط السياسية والدولية، بل حتى إن مراقبين تحدثوا عن إثارته للجدل داخل الحركة نفسها. كما أثار الإعلان حالة من الهلع في الأوساط الإعلامية والدبلوماسية الغربية، وصلت إلى حدِ مقارنة حماس بتنظيم الدولة الإسلامية والأفعال التي كان يرتكبها أيامَ توسعه وانتشاره.
ولطالما شكّل "إعدام الرهائن" قضية جدلية حادة على المستوى الفقهي الإسلامي، ومن ثم الشعبي، ناهيك عن تجريمه ورفضه في كل الأعراف والقوانين الدولية.
فهل اتخذ الجهازُ العسكري في حماس هذا القرار منفرداً دون السياسي؟
مفاجأة الإفراج عن الرهائن
مع أنّ القصف الإسرائيلي الشديد - المباغت وغير المسبوق بإنذار كما يقول شاهدو عيان- لم يهدأ قط، فإن عدم التنفيذ أو الإشارة حتى اللحظة إلى مستجدات ذلك الوعيد، وإطلاق سراح المرأة الإسرائيلية وطفليها، رغم أن أبو عبيدة نفسه، صرّح بشكل واضح لا لبس فيه، أنه لا تفاوض على الرهائن دون وقف إطلاق النار، وأن التفاوض له أثمان معروفة.. ربما يُجيبُ بـ نعم.
على أية حال، قد يكون الجهاز العسكري لحماس قد أطلق وعيده دون تنسيق مع الجهاز السياسي، ومن ثم تعرض لضغوط من أعضائه، ويُحتمل أنه أدرك لاحقا أن الإعلان لم يكن صائبا، وأنه لم يدرس تبعاته الكارثية على الحركة، والصدى الذي لقيه ذلك الإعلان في الغرب، وتأثير كل ذلك على الصورة "التحريرية" التي سعت حماس لبنائها والمحافظة عليها طوال عقود، ومحاولة نأيها بنفسها عن التنظيمات الإرهابية -كما تصنفها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية وعربية أخرى-.
وبالتالي، قد تكون الحركة قررت أن تقدم بادرة حسن نية، تحاول فيها ترميم آثار ذلك التهديد، وحتى إذا افترضنا أن إطلاق سراح هؤلاء الرهائن قد تمّ في بداية أيام الحرب -أي قبل تصريحات أبو عبيدة-، فنشر المقطع المصور بحد ذاته في هذا التوقيت، يعطي دلالة على محاولات الحركة بثَّ رسائل إيجابية، وأنها غير معنية بمزيد من التصعيد.
كما يأتي هذا في معرض رد الحركة على تقارير إسرائيلية زعمت أن حماس استهدفت الأطفال، ولاحقا تراجع البيت الأبيض عن تصريحات الرئيس جو بايدن بشأن رؤيته صور أطفال إسرائيليين "قطعت رؤوسهم على يد حماس".
ونقلت الإعلام الأمريكي عن مسؤول في الإدارة الأميركية، قوله إن هذه التصريحات كانت مبنية على "مزاعم" مسؤولين إسرائيليين وتقارير إعلامية محلية.
الفيديو قال أكثر مما أظهر
بحسب المقطع الذي انتشر -ولم تتمكن بي بي سي من التحقق منه-، فيمكن رؤية عناصر من كتائب القسام -وجوههم مغطاة- يطلقون سراح امرأة إسرائيلية وطفليها، قيل إنه في "كيبوتس حوليت" في غلاف قطاع غزة.
وسارت المرأة مرتديةً سترة زرقاء تجاه طفلها لالتقائه واحتضانه في مكان وعر، فيما بدا أنها كانت تحمل طفلا صغيرا بين ذراعيها أيضا.
ولم يتضح تاريخ تصوير المقطع أو ظروف احتجازهم، فضلا عن عدم وجود أي تفاصيل عن أسباب أو آلية إطلاق سراحهم.
ولكن يبدو أن التسليم كان في "نهار" يومٍ ما، وتمَّ في ظروف غير متوترة، إذ يبدو جليا أن عناصر حماس كانوا يسيرون بجانب المرأة وطفليها وهم في حالة هدوء تام.
وهنا، لو توقفنا للحظة عند سياقات هذا المقطع، وقبل حتى رد الفعل الإسرائيلي المستخف بالإعلان، فإن المقطع إذا كان قد صُوّر في "نهارٍ" ما، فهذا يعني قطعاً أن عملية الإفراج تمّت قبل المؤتمر الصحافي الذي عقدته "حكومة الحرب" في إسرائيل، والذي أعلنت فيه بشكل واضح استمرار عملياتها العسكرية بهدف القضاء على حماس وتدميرها.
ورغم أن حماس تحتجز ما يُقدّر بـ 150 رهينة، العديد منهم يحملون جنسيات مختلفة، وتسعى دولهم وعلى رأسها أمريكا لاستعادتهم، فضلا عن التقارير التي تشير لانخراط عدة دول في محاولات للوساطة بشأن الرهائن، لكنَّ إسرائيل أوضحت أنها ماضية في معركتها ضد حماس مهما كلّف الثمن.
يبدو أن "صولة" حمّاس الأولى -التي يُقدّر أنها حققت أهدافا استراتيجية غير مسبوقة-، عليها أن تواجه حتى إشعار آخر، "جولة" رد الفعل الإسرائيلية، بكل ما تحمل كلمة "حرب" من معنى، وهذا ما يترك المنطقة أمام مستقبل غامض الملامح والمآلات.