في مقال له نشر في "لوموند" في عددها الصادر في التاسع والعشرين من شهر يوليو-تموز من العالم الحالي، أشار عالم الاجتماع الكبير ادغار موران الذي لا يزال محافظا على مداركه العقلية رغم أنه تجاوز سن المائة إلى أنه يتوجب النظر إلى الأزمة التي تعيشها فرنسا راهنا في اطار أزمة عالمية متعددة الجوانب.
وفي بداية مقاله، قال إدغار موران بإن الجمهورية الفرنسية احتضنت في بداية القرن العديد من الأقليات مثل أولئك الذين ينتمون إلى مقاطعة الألزاس شرق البلاد، أو أهالي مقاطعة "بروتاني" الواقعة شمالاً، وعاملتهم كمواطنين كاملي الحقوق رغم أنهم احتفظوا بلهجاتهم المحلية، وبثقافتهم الخاصة. والأمواج الأولى للهجرة إلى فرنسا كانت بسبب فقر البلدان المجاورة مثل إيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبولونيا. ثم تبعتها هجرات أخرى حدثت بسبب حروب، وعمليات قمع رهيبة مثل تلك التي تعرض لها الأرمن في ظل الخلافة العثمانية، أو اليهود الروس في ظل الحكم القيصري.
وبعد الحرب الكونية الثانية، عرفت فرنسا موجات هجرة من صنف جديد. فقد تدفقت عليها أعداد كبيرة من الباحثين عن العمل، وعن حياة أفضل. وجلّ هؤلاء قدموا من بلدان المغرب العربي، وأيضا من العديد من المستعمرات الأفريقية القديمة. وكان هؤلاء المهاجرون مختلفين عن المهاجرين السابقين من ناحية اللون، والدين، واللغة، والثقافة. لذلك برزت ظاهرة العنصرية المؤدية إلى التهميش والاقصاء.
وفي أوساط المهاجرين الجدد انتشر الانحراف والجريمة والعنف. لذلك يمكن القول أن هناك فرنسا جديدة برزت مع موجات الهجرات التي تدفقت عليها على مدى الخمسين سنة الماضية. وشاعرين أنهم يُعاملون كما لو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية رغم أنهم يتمتعون بالجنسية الفرنسية، بدأ المهاجرون، خصوصا المنتمون منهم إلى البلدان المغاربية، يتململون ويحتجون وينتفضون بين وقت وآخر مطالبين بعنف أحيانا بضرورة احترام دينهم ولغتهم، والكفّ عن اهانتهم والدوس على كرامتهم.
ويرى "موران" أن فرنسا لم تكن أبدا موحدة عير مختلف مراحل تاريخها المعاصر.
وفي القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة، شهدت فرنسا العديد من النزاعات الداخلية. وخلال الحرب العالمية الثانية، انقسمت إلى شطرين: شطر مع القوى اليمينية بزعامة الماريشال بيتان الذي أمضى وثيقة الاستسلام للاحتلال النازي، وشطر مع القوى الوطنية بزعامة الجنرال ديغول تصدت لهذا الاحتلال بقوة السلاح.
وشهدت فرنسا انقساما خطيرا كانت الحرب الجزائرية سببًا أساسيًا فيه. إذ تمرد الجنرالات على السلطة المركزية رافضين منح الجزائر استقلالها.
وبعد استقالة الجنرال ديغول سنة1969، احتدت الصراعات بين الأحزاب اليمينية واليسارية. وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي، استعاد اليمين المتطرف قوته، ليؤسس "الجبهة الوطنية" التي أصبحت الآن "حزب التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبان.
وخلال العقود الماضية، شهدت فرنسا تحولات كبيرة تمثلت بالخصوص في تمزّق العائلة، وانتفاء التضامن بين السكان في القرى وفي المدن الصغيرة، واتخذت الفردانية التي كانت إيجابية وجها سلبيًا لتنتشر بين الفرنسيين الأنانية المفرطة، والجشع، ولتنعدم الكثير من المثل والمبادئ الإنسانية والأخلاقية في المدن الكبيرة. ويكتب ادغار موران قائلا:" هذه الأزمة الحضارية اتسعت وتعمّقت لتتحول إلى أزمة فكر. ونحن نعيش شيئًا فشيئًا تحت هيمنة فكر انفكاكي وانفصالي وأحادي عاجر عن ربط المعارف ببعضها البعض لكي نفهم عالمًا تتبادل فيه المواد والنشاطات التأثيرات والتفاعلات.
ومُجمدا في أنظمة معرفية مُغلقة، يجد هذا الفكر نفسه عاجزًا عن إدراك تعددية هذا الحدث أو ذاك، والالمام بأبعاده. لذلك هو يُعمي بصيرتنا عن الظواهر المعقدة لحياتنا ولزمننا".
والسبب في ذلك بحسب رأي "موران" هو أن المعاهد والجامعات تقدم للتلاميذ وللطلبة معارف مبتورة ومنفصلة عن بعضها البعض. تُضاف إلى كل هذا الأزمات العالمية في المجال الصناعي والزراعي، وفي مجال التغيّرات المناخية التي بدأت معالمها الخطيرة تبرز للعيان.
ومعلًقا على الأحداث الأخيرة التي هزّت فرنسا مطلع الصيف الحالي، أشار "موران" إلى أن فرنسا تجد نفسها الآن في قلب دوامة سوف تزيد في حدة الفروقات والنزاعات بين شطريها. وغضب المهاجرين يمكن تفهمه إذ أنهم يعيشون في ضواحي شبيهة بسجون منفصلين عن المجتمع الفرنسي.
وعوض أن تسعى الدولة الفرنسية إلى معالجة جذرية للمشاكل والقضايا المتراكمة، هي تجنح إلى العنف معتقدة أن الأجهزة الأمنية قادرة على تهدئة الأوضاع، وكسر شوكة الغاضبين.
وفي نهاية مقاله، يقول إدغار موران بإن الأزمة العالمية تزداد استفحالاً يوما بعد آخر. وربما تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
وقد يكون الغزو الروسي لأوكرانيا فتيلاً لها.