: آخر تحديث

دروس من العراق: هل تتكرر التجربة في سوريا؟

2
3
2

شكل العراق منذ عام 2003 نموذجًا مأساويًا للآثار التي تترتب على تغيير الأنظمة السياسية بالقوة العسكرية، ثم الفشل في بناء دولة قوية قادرة على استعادة سيادتها وتعزيز استقرارها.

وما بين إسقاط نظام صدام حسين، عبر القوات الأميركية وحلفائها والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك، ساءت الأوضاع في البلاد بشكل كبير، وعاش الشعب العراقي في دوامة من الاضطراب السياسي والاجتماعي وغرق في مستنقع الفساد حتى الآن. اليوم، تعيش سوريا ظروفًا مشابهة، لكن مع اختلافات تميز كلا البلدين.

في العراق، كانت فترة الاحتلال الأميركي مليئة بالتحديات. فبدلاً من أن تكون مرحلة انتقالية بناءة، فقد تحولت إلى فترة من التفكك الداخلي والانقسام الطائفي، حيث استغلت القوى والمليشيات الشيعية والجهات السياسية المرتبطة بها الفراغ الذي خلفه نظام صدام حسين لإرساء سلطتها، مستعينةً بالمال والموارد التي وفرتها الحكومة الأميركية وأجهزتها الأمنية. ونتيجة لذلك، تم إقصاء العديد من الكفاءات العراقية المستقلة التي كان يمكن أن تساهم في إعادة بناء الدولة. كما أن التهجير الطائفي والتخريب الذي مارسته الجماعات المسلحة أسفر عن حرب أهلية طاحنة، زادت من تعقيد الوضع الداخلي، فضلاً عن التدهور المعيشي المستمر للمواطنين.

ومع مرور الوقت، وبعد انتهاء السيطرة الأميركية المباشرة على السياسية العراقية، وإطلاق العملية السياسية، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لم تتحسن أوضاع العراقيين. بل كانت الفترة اللاحقة للاحتلال هي استدامة الوضع الذي تم تكريسه في ظل الاحتلال. ازاد سوء الإدارة وازداد الفساد وصارت التعيينات في الإدارات الحكومية من الوزارة إلى أصغر موظف، معتمدة على الولاء للميلشيات والأحزاب التي تتقاسم السلطة والثروة والفساد.

كان نتيجة ذلك أن أصبحت الدولة العراقية بلا بنية تحتية فاعلة؛ فلا كهرباء كافية، ولا خدمات صحية لائقة، ولا خدمات تعليمية جيدة، ولا برلمان يرقى لتطلعات الشعب.

اليوم، ورغم اختلاف الظروف التي تمر بها سوريا، لا يمكننا إنكار التشابه الكبير في مجريات الأحداث. ففي سوريا، وبعد انطلاق الثورة التي أطلق شرارتها نخب وجماهير مستقلة، والتي تحولت إلى صراع عسكري دام، وبعد سنوات من الصراع المستمر، يبدو أن سوريا تتبع نفس المسار الذي مر به العراق في مرحلة ما بعد 2003.

بدايةً من دخول المليشيات السنية إلى دمشق، مرورًا بتشكيل تحالفات عسكرية وغير عسكرية ذات طابع ولائي بل وطائفي حتى الآن، وصولًا إلى إقصاء ممنهج لكل الأفراد والجماعات الفكرية والجماعات السياسية على هزالتها في سوريا. فمثلما حدث في العراق، يلاحظ أن هناك محاولات لعدم إشراك الخبرات والكفاءات الوطنية التي لا تنتمي لتيار الاسلام السياسي السلفي الذي يحاول التخلي عن جهاديته، واستبدالها بأفراد لا يمتلكون القدرة على بناء الدولة أو تعزيز مؤسساتها.

ولكن الاختلاف الكبير بين العراق وسوريا يكمن في الموارد المالية، حيث أن العراق كان يتمتع بموارد ضخمة من النفط كانت تتيح للسلطات الحاكمة القدرة على إنشاء اقتصاد مواز للاقتصاد الوطني الرسمي، يمكن أن نطلق عليه اقتصاد الفساد وهو ذو حجم ضخم أتاح لهذه القوى إستمرار احكام سيطرتها على مفاصل الدولة.

سوريا في وضع مختلف، فهي شحيحة الموارد، وتعاني أزمة اقتصادية خانقة، تتسبب في عجز الحكومة عن توفير حتى أبسط احتياجات المواطنين، من المياه والكهرباء إلى الخدمات الأساسية الأخرى. ومن هنا يبرز السؤال: إذا استمر الوضع على هذا النحو، هل ستسير سوريا على نفس الدرب الذي سار عليه العراق، وتغرق في مستنقع الفساد الولائي لغير المؤهلين ومعدومي الخبرات في كل المجالات؟ حتى هذا المسار لا يمكن لسوريا أن تضمن به استمرار الوضع على ما هو عليه لسنوات طويلة كما حدث في العراق، فلا موارد كافية لتتقاسمها شريحة واسعة من الفاسدين وبالتالي سنكون أمام عودة لمسار الطغمة السابقة، فئة قليلة تستحوذ على اقتصاد الفساد.

إقرأ أيضاً: لقاء ترامب وبوتين وصعود الدور السعودي في تسوية النزاعات

إنَّ أحد الدروس المستفادة من التجربة العراقية هو ضرورة وجود عملية سياسية شاملة تأخذ بعين الاعتبار جميع الأطراف السياسية والطائفية في البلاد، ولا تقوم على تهميش أو إقصاء فئات معينة. لا يمكن بناء دولة ديمقراطية وقوية إلا إذا تم تمثيل جميع فئات الشعب في مؤسسات الدولة، وتوُفر فرص متساوية للجميع في المشاركة في عمليات صنع القرار. من خلال هذه العملية الشاملة، وإحلال مفهوم الكفاءة والخبرة بدلا عن الولاء والمحسوبية يمكن استعادة الثقة بين أبناء الشعب السوري وإعادة بناء التماسك الوطني الذي دمره الصراع.

أما إذا استمرت السلطات الحالية في إقصاء الخبراء والكفاءات، والاعتماد على المحسوبية والتأييد السياسي الضيق، فإنَّ سوريا قد تجد نفسها في دوامة مشابهة لما مر به العراق: مزيد من التفكك والانقسامات الداخلية التي تؤدي إلى تفشي الفساد واستمرار الأزمات. والمخاطر هنا واضحة؛ فبدلاً من إعادة بناء الدولة، قد تتعرض سوريا إلى مزيد من التقسيم الطائفي والعرقي، مما يزيد من تعميق الهوة بين فئات الشعب، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أهلية مستدامة متعددة الأطراف وليس كالنزاع السابق بين سلطة غاشمة وشعب أراد الحرية.

من أجل تفادي هذا المسار، لا بد من النظر في التجربة العراقية وتعلم الدروس منها. ينبغي أن تكون الأولوية في سوريا لبناء مؤسسات قوية وشفافة تعتمد على الخبرات والكفاءات المحلية المستقلة. وفي هذا السياق، لا ينبغي الاستمرار في تهميش أصحاب الآراء المستقلة وأصحاب الكفاءات من جميع الطوائف والمناطق. يجب أن يتخذ النظام السوري خطوة نحو إنشاء عملية سياسية حقيقية تضمن تمثيل جميع الأطراف، بما في ذلك المعارضة، تساهم في تحقيق الاستقرار على المدى البعيد.

إقرأ أيضاً: أبعدوا الكتاب المصريين عن لجان التحكيم

الخطوة الأهم في هذه العملية هي تعزيز المشاركة المجتمعية الفعالة التي تقوم على أساس تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والكفاءة، بدلاً من الانغماس في الحزبية الولائية الضيقة والطائفية المدمرة. من خلال هذه الجهود، قد تستطيع سوريا بناء وطن يعيد جمع شتات الشعب، ويوفر للأجيال القادمة الفرصة للعيش في بلد مستقر وقوي.

في الختام، بالرغم من أن الوضع في العراق وسوريا يختلف في بعض التفاصيل، فإنَّ تجارب العراق تعطي مؤشرات قوية لما يمكن أن يحدث في سوريا إذا استمرت السياسات الحالية. إذا كانت الدروس المستفادة من العراق في غياب بناء دولة ذات مؤسسات فعالة وغياب معالجة القضايا الطائفية والمحسوبيات والفساد الإداري التعييني الإرتجالي، فإن سوريا قد تجد نفسها في دائرة مغلقة من الصراع السياسي والمجتمعي وقد يستمر لعقود.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف