إن طَيف القوى اليسارية في ألمانيا مُتنوع، وهي إما مِن مُخَلّفات ألمانيا الشرقية، أو من بقايا المنظمات اليسارية المتطرفة التي أرهَبَت ألمانيا الغربية في ستينيَّات القرن العشرين. وتتقاسم الأدوار، بين خَلايا نائِمة كالحِزب الشيوعي الألماني (DKP) والحِزب الماركسي اللينيني (MLPD)، وأخرى تدعي بأنها مُنظمات مُجتمع مَدني يتم تمويلها من أموال دافعي الضرائب كأنتيفا (ِAntifa) والكتلة السوداء (Black Block)، وأخرى حاضِرة في المَشهد السياسي كاليسار والخُضُر، تُخفي تَطَرّفها خلف شِعارات الدِفاع عَن حقوق الإنسان والبيئة، فإذا إختلفَت مَع الآخرين تطلِق أتباعها في تظاهُرات لإرهِابهم. وتكمُن خُطورة هذا الطَيف رغم أنه أقلية، بأنه يَتَوَزّع بَين الشَباب، الى جانِب أوساط المثقفين.
بَعد أن ثبّت اليَسار أقدامَه في السياسة الألمانية، باتَ يَسعى لِفَرِض آدولوجيته بِشَتّى الطُرُق. فإذا نَجَح بالطُرق الديمقراطية عِبر تحالفات سياسية في البَرلمان، كان بها، وإذا لم ينجح، يُطلق أتباعه للشَوارع كالوحوش لتنهَش مُعارضيه بشِعارات التخوين وخطابات التهديد. مِثال على ذلك، ما حَدَث قبل أيام مع حِزب الاتحاد، بعد نَجاحه بتمرير مُقترح قانون لِلحَد مِن الهُجرة، وفشل اليسار بإيقافه، بعد تصويت حزب البَديل اليَميني مع القانون، وما تبِعَه مِن تظاهرات هاجَمَت مَقر الإتحاد وأرهَبَت أعضاءه، فكان لهُم ما أرادوا في جَلسة التَصويت على إقرار القانون بعد يومين. رَغم ذلك لم تتوقف التظاهرات لإدامة الزَخم القطيعي المَسعور وإستغلاله في الأنتخابات. لذا بات مَيل اليَسار لإستخدام العُنف يُهدد الديمقراطية الألمانية والسِلم الأهلي، ووِفقاً للإحصائيات زاد عدد اليَساريين العَنيفين ومَجاميع اليَسار التي تتبَنّى العُنف خلال السَنوات الأخيرة، وزادت مَعَهم أعمال العُنف ضِد مُعارضيهم الذين يَصِفونهم بـ"الفاشيين"، والذين لا يشملون المُتطرفين اليَمينيين فحَسب، بل كل مَن يَختلف مَعَهم، إضافة للدولة والشرطة والشركات والبُنية التحتية.
وكما أن كل الطُرق تؤدي الى روما، فإنَّ كل أشكال التطَرّف عَن الوَسَطية، يَميناً أو يَساراً، تسعى لتمرير آدولوجيتها التي سَتقضي على الديمقراطية لأنها تتعارض مَعها. اليَمين مثلاً يَرفض فكرة المُساواة، لأنه يَسعى لإقامة دولة قومية مُتجانسة عِرقياً. في حين يُبالغ اليسار بفكرة المُساواة، مِمّا يُهدد مَبدأ الحُرية الديمقراطي. اليَسار ليسَ أكثر حِرصاً على الديمقراطية مِن اليَمين، لأنه مثله يَتبَنّى آديولوجيا شُمولية تراها فكرة برجوازية لا يُمكن التعايُش مَعَها. الديمقراطية تعني تغيير بطُرُق دستورية، واليَسار يَتَبنّى شَرعية ثورية تؤيّد الإنقلابات! الديمقراطية تعني التعددية، واليَسار يَتبَنّى فكرة الحِزب الواحِد! الديمقراطية تعني تبادل السُلطة، واليسار يؤمن بالزَعيم الأوحَد! الديمقراطية تعني إحترام إرادة الناخبين، واليَسار يَضَع حائط ناري لحِزب البديل، ولا يَحتَسِب تصويته في البَرلمان ونتائِجه بالإنتِخابات، رَغم أنه مُنتخَب مِن قِبل رُبع الألمان!
إقرأ أيضاً: قضيّتان تؤرِّقان الألمان
رَغم ذلك يَرفُض البَعض مُقارنة التطرف اليَميني باليَساري، ويَرون أن المُساواة بَينهُما تقلل خَطَر اليَمين وتُشَيطن اليَسار، الذي هو فِعلاً شيطان بقِناع مَلاك! فتَطَرّف اليَمين مُتّفَق عليه، لكن مازال هُناك مَن يُناقش خَطَر اليَسار ويَراه حالة صِحِيّة ويَحسَبه على القوى الديمقراطية، وهنا تبرُز أهمية توضيح ذلك للمَخدوعين به. اليَسار يُسيطر اليَوم على الإعلام ويُسَوّق لأجندَته ويُسَقِّط مُنافسيه مِن خِلاله، وقد أكّد الإعلامي آلكسندر تيسكة، الذي عَمل لِسَنوات مَسؤولاً لأخبار القناة الألمانية الأولى، إختراق اليَسار لهذه المؤسّسة العَريقة، وتأثيره على خطابها الإعلامي الذي باتَ يُشيطِن ما يَحدُث في البَرلمان ما دام لا يُوافِق بروبغندا اليسار، مُقابل ترويجه لشُخُوصه الهَزيلة وتظاهُراته العَنيفة. كما باتَ يَتَسَيّد المَشهد السياسي بإبتزاز أقرانه الذين باتوا يتقون شَرّه، فاليسار مؤمِن أن لديه أحَقيّة تنفيذ غير مَشروط لرؤيته، سواء بشكل فوضى أو دكتاتورية.
لم يَعُد التطَرّف اليَساري في ألمانيا مُتمَثلاً بشَباب مُلثمين ودُخان إطارات، بل باتَ أكثر تعقيداً، وأخذ هَيئة أحزاب سياسية تَسَلّلت للبَرلمان، بل وهَيئة مُستشارة تُمَثِّل حِزباً مُحافظاً، لكنها تُنَفِّذ أجندات اليَسار، كما فَعلت أنجيلا ميركل خلال سَنوات حُكمِها، إذ لم تكتفِ بإضعاف الاتحاد كيَمين وَسَط، بل سَحَبته إلى اليَسار، حَتى فقد ثقة ناخبيه الذين انفَضّ بَعضهم عُنه إلى حزب البَديل اليَميني الذي ما كان ليَنجح لولا قيامها بذلك. كما حَقّقَت هَدفين أساسيّين للخُضر، هُما فتح الحُدود لمَن هَب وَدَب، ما تسَبّب بزَعزَعة بُنية المُجتمَع الألماني وقِيَمه، وتدميرها الصِناعة الألمانية التي تمثل عَصَب الاقتصاد الألماني، بإغلاقها لمَفاعلات الطاقة، وتوَريطَها ألمانيا باتفاقية نورد ستريم التي رَهَنَت اقتِصادها بمَعتوه كفلاديمير بوتين. طَبعاً نرجسيَتها تمنَعها مِن الاعتِراف بهذه الكوارث حَتى اللحظة، بل تتباهى بها وتعتبرها إنجازات في كتاب سيرَتها الذي جَنَت مِنه 12 مليوناً! ولم تكتفِ بذلك، بل طَعَنت مُرَشّح حِزبها ميرتز في الظهَر حين هاجَمَته لقبوله تصويت البَديل لصالح مُقترحه حَول الهُجرة، ما تَسَبّب بإفشال التَصويت على القانون بَعدَها بأيام لِإمتناع تصويت بَعض أعضاء حِزبه مِمّن لا زالوا يُدينون بالولاء لها، رَغم أن ما قام به مُناورة ذكية لحِزب يَمين وَسَط يَسعى لإستِرجاع ناخبيه الذين أهدَتهُم ميركل للبَديل بسِياساتها الغبيّة.
إقرأ أيضاً: مِن قِلّة أحصِنة بوتين شَد على كيم وجَيشه سروجاً!
الكثير مِن ضَوضاء الشارع والإعلام التي يَقوم بها اليَسار الألماني اليوم بحُجة مُواجَهة اليَمين الكاذِبة، لأنه ومُنذ عُقود لا يُضَيّع فُرصة إلا ويَستغِلها لإطلاق تظاهُراته الإرهابية وخِطابة التَرهيبي ضِد النِظام والقانون أو دَعماً لدَولة دكتاتورية مارقة أو مُنظّمة إرهابية، وما رافقَها مِن خُطوات مُريبة بالسَنوات الماضية، هي نِتاج نفس الفِكِر الذي أنتَج بادر-ماينهوف قبل 50 عاماً، حين أقدَمَت صَحَفية تُدعى أولريكه ماينهوف (35 عاماً) على كتابة بيان حَدّدَت فيه آديولوجيا وأهداف مُنظَمة الجَيش الأحمَر، طالبت فيه بثورة يَسارية تُطيح بألمانيا الغَربية الرأسمالية، ودَعَت إلى استخدام العَنف لتحقيق ذلك. تحت شِعار هذه المُنظمة الإرهابية الذي صَمّمَه أندرياس بادر (36 عاماً) مِن نَجمة حَمراء يَتَوَسّطها رَشّاش، نُفِّذَت عَمَليات تفجير وخَطف واغتيالات، حَظيت حينها بتأييد بَعض المَدنيين والمُثقفين، لدَغدَغَتها مَشاعِرهُم بشِعارات دَعِم نِضال الشُعوب ضِد الرَأسمالية ونُصرة الطَبقة الكادِحة، ولا زال بَعض المَعتوهين يَعتبرونَها حَرَكة تقدّمية! في النهاية لم تنجَح هذه المُنَظّمة بالإطاحة بألمانيا الغربية، لكنّها لطّخَت سُمعة اليَسار الألماني. ويَسار اليوم فَعَل المِثِل، فقد باتَت سُمعة الحزب الإجتماعي الديمقراطي في الحَضيض، لأنه مَحسوب عليه. ولا نَدري إن كان إطلاق سَراح بَعض قيادات المُنظّمة قبل سَنَوات، رَغم أحكام المُؤبد الصادرة بحَقهم، جُزء مِن هذه الخطوات! وحَتى إن لم يَكُن كذلك، فهو يُظهِر تَغَوّل اليَسار في جَميع مَفاصل الدَولة الألمانية وإستِغلاله لتَرَهُّل قانونَها. وإلا كيف يُطلَق سَراح الإرهابيين بريجيت مونهبت وإيفا هويلة وكرستيان كلار القياديين السابقين بهذه المُنظّمة، المَحكومين مؤبد عِدّة مَرّات، رَغم ضُلوعِهِم بأعمال إرهابية طالت مؤسّسات وشُخوص عامة، كهانز شلاير رَئيس رابطة العَمَل الألمانية، والمُدّعي العام بوباك، ورئيس بنك دريسدن يورجن بونتو.
المَهزلة! هي أن أغلب أحزاب الهيبيز الفَوضَوية اليَسارية، التي كانت مَحضورة حَتى التسعينيَّات، لإتهامها بالتطَرّف، تَتّهِم حِزب الإتحاد الذي أعاد بناء ألمانيا بَعد الحَرب العالمية الثانية، بالنازية! والعَوام تُصَفِّق له، ما يُعَد سابقة خَطيرة تكشِف خَطَر اليَسار، وما يُمكن أن يَفعَله مُستقبلاً إذا تَمَكّن مِن السُلطة.