تأملت الصورة التي نشرتها وكالة «رويترز» للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يستقبل المستشار الألماني أولاف شولتس في باريس، وتساءلت: ماذا لو كان هذا اللقاء أيام كانت المستشارة أنجيلا ميركل في دار المستشارية؟
تأملتها وفي خاطري ما كانت مجلة «تايم» الأميركية قد نشرتها على غلافها يوم مجيء ماكرون إلى قصر الإليزيه. فلقد وضعت على غلافها صورة للرئيس الفرنسي الذي كان بالكاد يدخل القصر، ثم كتبت تحت الصورة: «الرجل القادم في أوروبا».
وعندما تكون صيغة الحديث عن «رجل قادم» فمعنى العبارة أن هذا سيحدث في المستقبل، لا الآن، وأما لماذا لم يكن قدوم الرجل سيحدث «الآن»؟ فالغالب أن السبب هو وجود المستشارة ميركل في دار المستشارية وقتها، وبالتالي، فإن قدومه في ظن القائمين على المجلة كان مرتبطاً بأن تغادر ميركل دار الحكم، وأن يتسع المجال لمجيء الرجل الذي كانت المجلة الشهيرة ترشحه.
وفي يوم مغادرة المستشارة السابقة، بعد 16 عاماً قضتها في الدار، تحدثت الأوساط السياسية الأوروبية عن أن الملعب السياسي صار مهيأً لاستقبال الرئيس الفرنسي باعتباره اللاعب السياسي الأوروبي الذي سيحل محل ميركل بعد غيابها.
وقد كانت فرنسا متحفزة طول الوقت للجلوس في مقعد القيادة في القارة، وكان الجالس في الإليزيه لا يفارقه هاجس أنه جالس في المكان الذي جلس فيه نابليون بونابرت، ومن بعده شارل ديغول، وكلاهما كان يؤسس في مكانه لقيادة فرنسية تأخذ القارة الأوروبية إلى منافسة خفية مع بلاد العم سام على الشاطئ الآخر من الأطلنطي.
كان هذا الهاجس يغازل ماكرون منذ دخل القصر، ولكن لأنه جاء في أثناء وجود المستشارة السابقة في دار المستشارية، فإن أسبقيتها عليه جعلتها تؤسس لقيادة خاصة بها هي، لا بألمانيا، ولا دليل على ذلك إلا أنها ما كادت تغادر حتى كان الهاجس إياه قد استيقظ في داخل الرئيس الفرنسي، وبشكل بدا أنه استيقاظ تدريجي يؤمن بنظرية الخطوة خطوة، ولا يستعجل القدوم إلى قمرة القيادة التي تأخذ بأيدي الأوروبيين إلى حيث يجب أن يكونوا ويجلسوا.
ولكن مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية أيقظ الهاجس أكثر وأكثر، ومعه أيقظ قدراً من التوجس الأوروبي تجاه ما يضمره سيد البيت الأبيض للقارة العجوز. ففي فترته الأولى كان ترمب يخاطب الاتحاد الأوروبي بلغة لم يكن الأوروبيون يستسيغونها، لأنهم لم يألفوها من جانب الأميركيين من قبل، وتحديداً منذ أن قام تحالف بين الفريقين على مستوى حلف شمال الأطلنطي، أو على مستويات أخرى سواه بينهما.
لم يألفوا لغة ترمب في فترته الأولى، وناموا بملء أجفانهم عندما غادر البيت الأبيض، فإذا به يعود من جديد على غير توقع، وإذا بلغته أكثر صراحةً في حديثه مع حلفاء بلاده الأوروبيين، وإذا باللغة أكثر حدة ربما. والمشكلة أنه راح يقرن اللغة بسياسات عملية على الأرض أثارت القلق لدى كل أوروبي، بل وذهبت إلى ما هو أبعد من القلق.
وقد رأينا دموع رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن كريستوف هيوسغن، وهو يبكي متأثراً بما يقوله ترمب ويفعله، وكان بكاؤه علامة على مدى ما يشعر به الأوروبيون إزاء ما يشبه التخلي الأميركي المفاجئ عن القارة. ومن قبل بكاء رئيس المؤتمر تأثراً، كان جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، قد حضر إلى ميونيخ، وكان قد خاطب الأوروبيين بلغة أحسوا منها أنها غير لائقة، وأنها ليست اللغة التي يمكن بها مخاطبة قارة في حجم وتاريخ أوروبا.
فلما تواصل ترمب هاتفياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء القطيعة بين روسيا وأميركا، اشتعلت هواجس أبناء القارة الأوروبية إلى السماء، وتنادوا إلى قمة في باريس ظهر فيها ماكرون وهو يستقبل شولتس، ولسان حالهما يقول: بيدنا لا بيد ترمب.
أحس الأوروبيون بأن شيئاً يجري من وراء ظهرهم عن حرب تدور على أرضهم، وترددت كلمات صعبة مثل «الخيانة» عن علاقات بين حليفين منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يكن هذا التنادي إلى القمة سوى إشارة إلى ثقل ما يشعرون بوطأته على النفوس في عواصم القارة.
لم يكن الرئيس الأميركي سافر الوجه هكذا وهو يخاطب الأوروبيين في فترته الأولى، ولا أحد يستطيع أن يقطع بأن الإدارة الأميركية يمكن أن تمضي طوال سنواتها الأربع في هذه السياسة تجاه أوروبا، ففي الولايات المتحدة مؤسسات حاكمة وراسخة قد لا يُرضيها هذا التوجه، وقد ترى فيه ما لا يحقق الصالح الأميركي على المدى الطويل، فتتدخل لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ولكن هذا لا نستطيع أن نتبينه الآن، وإنما بعد الستة أشهر الأولى في البيت الأبيض، ومن هنا إلى هناك سوف تظل أوروبا ساهرة تفكر وتتدبر.