ليس سهلاً البقاء في القمة؛ مقولة سويدية تعني أن الحفاظ على وضعية البقاء في القمة أصعب بكثير من الوصول إليها. هذا المثل ينطبق حرفياً على هيئة تحرير الشام والفصائل الإسلامية المسلحة الأخرى التي دخلت دمشق منتصرة. بشار الأسد سقط وزمرته بعد ثورة شعبية دامت أكثر من ثلاثة عشر عاماً شارك فيها الأغلبية الساحقة من السوريين، مضحين في دروب خلاصهم بالغالي والنفيس. لكن لكي نكون منصفين، فلا بد من الاعتراف بأنَّ الهيئة، وعلى رأسها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، تستحق الشكر، وسوف يسجل التاريخ لهم بأنها سددت الضربة القاضية التي أسقطت نظام الأسد وهزمت زبانيته بشكل مباشر، وخلقت فرصة عودة ملايين السوريين من الشتات إلى ديارهم التي شردوا منها، سعداء ومفعمين بالأمل في خلق غدٍ وعهد جديد.
الآن هناك إرث ثقيل من هدم وتدمير للبنى التحتية والمجتمعية خلفه النظام البائد، وكم هائل من التحديات الكبيرة التي على القيادة الجديدة وحكومة تصريف الأعمال التعامل معها تباعاً. وقبل كل هذا وذاك، الإدارة الجديدة في دمشق مدينة للحكومة التركية، الدولة الجارة والإقليمية القوية التي كانت خلف الانتصار العسكري على الأسد ومنظومته القمعية.
تركيا تمتلك العديد من المزايا التي تؤهلها لإرساء نفوذ طويل الأمد على الداخل السوري مقارنة بالدور الإيراني في عهد الرئيس المخلوع. فبالإضافة إلى أن لها أطول شريط حدودي مع سوريا، هناك تناغم أيديولوجي بين المنتصرين من حكام دمشق الجدد وحزب العدالة والتنمية. وتركيا لن تكتفي بالتخلص من تحمل أعباء اللاجئين السوريين من خلال إعادتهم إلى مدنهم وقراهم السورية، بل إنها لن ترضى بأقل من تجريد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من أسلحتها الثقيلة والخفيفة وبسط نفوذها على كامل التراب السوري ثمناً للمساعدة التي قدمتها للفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام.
تركيا لها باع طويل في اجتياح المناطق الكردية واستباحة سمائها، سواء على حدودها مع سوريا أو مع العراق، لكن ما يعيقها حتى الآن هو وجود قوات أميركية متحالفة مع "قسد". لذلك، ستستمر في تأجيج الصراع بالوكالة عن طريق دعم الفصائل المسلحة الموالية لها، مما يشكل العقبة الأكبر أمام السوريين للعمل معاً من أجل تعافي بلدهم. وهي بذلك، أي تركيا، تهدد السلم الأهلي الذي السوريون بمختلف مكوناتهم بأمسّ الحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إقرأ أيضاً: هل معركة دحر قسد هي التالية؟
السوريون يجمعهم الألم المشترك الذي عانوه على مدى خمسة عقود من حكم الأسد الأب والابن. وبلا شك، لولا التدخل الخارجي التركي، كان من الممكن التوصل إلى توافق وطني سوري يحفظ حقوق كافة المكونات في دستور جديد، على اختلاف إثنياتهم ودياناتهم وطوائفهم، في سوريا موحدة. لكن كل الدلائل تشير إلى أنَّ تركيا لن تدع السوريين وشأنهم، ولن تكتفي بعلاقات حسن الجوار، مدفوعة برُهاب مزمن تعانيه من وجود الكرد كقوى سياسية فاعلة على تخومها في سوريا. وعلى وجه الخصوص إذا كانت هذه القوى السياسية الكردية تمتلك السلاح.
القضية الكردية في تركيا أكبر بكثير من أن تنجح الدولة التركية، بزعامة رجب طيب أردوغان، في نزع سلاح قسد. هناك أكثر من 25 مليون مواطن كردي يعيشون على أرضهم التاريخية في كردستان تركيا، بالإضافة إلى ما لا يقل عن خمسة ملايين يعيشون في الحواضر التركية. المسألة الكردية قضية شعب وأرض، وعلى حكومة أردوغان الجلوس مع ممثلي الشعب الكردي هناك بدل سجنهم إذا كانت صادقة في سعيها لأن تكون دولة إسلام مسالم.
إقرأ أيضاً: سفر برلك غزة!
ما تفعله تركيا وإدارة حزب العدالة والتنمية هو استغلال نفوذها إلى أقصى حد ممكن للواقع المتأزم في سوريا، وضرب مكوناتها ببعضها بعضاً، وإشغال الرأي العام التركي بانتصارات خارج حدودها، ظناً منها بأنها بذلك تستطيع كتم أفواه شعب كامل من المطالبة بحقوقه المشروعة.
دموع الفرح بسقوط الدكتاتور وهروبه وحّدت السوريين جميعاً بمختلف فئاتهم ومكوناتهم، وذلك بعد تضحيات جسام قدمها الشعب. وعلى كل معني بالشأن السوري أن يسعى كي تبقى كذلك.