أصعب المواقف وأحزنها أن تسمع خبراً عن صديق عزيز وهو يرقد في بيته أو في المستشفى يصارع مرضاً صعباً ومعقَّداً، والأصعب أن ترى صورته على فراش المرض وكأنها لا تعود له، ولا لزمنه الجميل، وعز أيامه، وفخامة عطائه، ونبل إنسانيته. حتى لتشعر أن الزمن الذي تعيش به مخصَّباً بالشجن، وعديم الفائدة؛ بل هو الوهم العنيد المستمر الذي لا يستقر على حال.
آخر الصور والأحزان التي قضت مضجعي، صورة تلميذي القديم، وصديقي الغالي إياد البكري وهو يرقد على فراش المرض في بيته بالأعظمية، دون أن يجد أي رعاية من الدولة التي خدمها أكثر من نصف قرن، ولا هو قادر على رعاية نفسه لفقر الحال، ولا مستشفى حكومية تأويه؛ لأنها تمتلئ بالفئران وليس بالبشر!
إياد البكري، عرفتُه منذ منتصف الثمانينات، وهو الطالب النبيه والمثابر والمجتهد الذي لا يقبل إلا بخوض الصعاب في العلم، والاجتهاد في منهجيات البحث العلمي، فاختار موضوعاً جديداً في الماجستير، وهو البث الفضائي الذي كان في أول انطلاقاته، وأصرَّ أن أكون مشرفَه في الماجستير، فوقفت معه لأنني كنت أعرف قدراته العلمية، وشجاعته البحثية، وحدْسه الإعلامي الثاقب. ومن الصدف أن يكون هو أول طالب أشرف عليه بعد عودتي للعراق، ومعه زميله د. كاظم العامري، فكنت محظوظاً بهما؛ لأنهما كانا من خيرة الطلبة علماً وممارسة في مجال العمل الصحفي.
أشعر بحزن كبير، وأنا أرى البكري يرقد في الفراش يصارع المرض، ويأخذ منه المرض قوته ومثابرته العلمية، وطموحاته الكثيرة التي لم يستطع تحقيقها لأسباب كثيرة، وهو يعيش أسوأ حالاته الصحية؛ فلا يجد مَن يناصره ويقف معه، فقد اختفت نظرة الحكومة إليه، وتناسته وزارة العلم والثقافة، وأهملته النقابات والاتحادات التي كان هو من أعضائها البارزين. وما يجري وصمة خزي وعار لهذه المؤسسات التي تقوم باغتيال العقل العراقي، واستبداله بالعقول المتخلفة.
والمأساة الأكبر، أن أسمع من زميل يخبرني بأنه استنجد بأبي الطيب (سعد البزاز)، بأن يتكفل بعلاجه، وكأن البزاز أصبح الدولة البديلة عن المثقف والفقير؛ لرعايتهم من الفقر والمرض والحاجة، ونشهد أنه صاحب المواقف الإنسانية الذي لا يبخل بالعطاء. ولو كان هناك ذرة حياء للمؤسسات الرسمية لطمرت نفسها في التراب. فأي وطن هذا الذي يُهمل علماءه ومثقفيه، ويجعلهم في مهب ريح الصدقات والمكرمات، وخزائنه مملوءة بالذهب ومليارات الدولارات، والغارق بالنفط الأسود والأبيض.
أصبح حلمنا اليوم مستحيلًا؛ فهيهات أن نجد في الوطن مَن يعيد للمثقف العراقي مكانته! في هذا الواقع العراقي المريض بالفساد والجهل. وكم من عالمٍ ومثقفٍ غادرنا فقراً ومرضاً، ولم نشعر برحيله!؛ بل إن عدد الذين ساروا في جنازتهم وشيَّعوهم إلى مثواهم الأخير أقل من عدد الكتب التي وضعوها وألَّفوها!
والحقيقة أن أقسى موتٍ للمثقف هو أن يُدفنَ داخل جلده، وأن تتآكلَ إنسانيته حتى آخر كلمة، ويراقَ دمه حتى آخر قطرة، وبدون أن يراه أحد؛ لأن هناك نزيفاً داخليّاً وغير منظور للذات، وليس فقط للدم.
مسكينٌ حال المثقف العراقي المذموم من قِبَلِ السلطة السياسية؛ لأن قدرَه أن يكون مثقفًا وصاحب رأي؛ مما يجعله دائماً يشعر بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، حائراً مرتبكاً غير واثق، وهو يواجه سلطة مهزومة مثقلة بالخيبات، لا ترعى رموزها العلمية والثقافية.
أشعر بالخجل حقّاً؛ لأن الكثير من علماء الوطن يعيشون اليوم في أتعس أيامهم؛ فقراً ومرضاً وإهمالا وغربة؛ بينما يعيش الجهلة في بذخ الحياة ومسرات القصور الفارهة.
أنهض يا صديقي إياد، فأنك الأقوى علماً ونبلاً، فالحياة جلطات تتخثر بالمظالم. وتنسد أوعيتها بتكلسات الجهل والظلم. واصبر على حال هذا الزمن التعيس عسى الله أن يفرج همَّك وغمَّك ومرضَك، وتَمَثَّلْ بيتيْ الشافعي الذي يقول فيهما:
ولربَّ نازلةٍ يَضيقُ بها الفـــــــــــــــــــتى == ذَرْعــــــــــــــــــــــــاً، وعند الله منها المَخْرَجُ
ضاقت، فلما استحكَمَت حلقاتُها == فُرِجَتْ، وكُنتُ أظنُّها لا تُفرجُ.