يتميّز الكاتب البرتغالي الكبير خوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب، والذي رحل عن الدنيا عام 2010، مُخلفا للمكتبة العالمية روايات خالدة، بحسّ إنساني رفيع يتجلى في مجمل أعماله، كما في مواقفه الأدبية والسياسية. وهو الذي جاء إلى الكتابة من مهنة الحدادة الشاقة، لم يكن يقبل بأي حال من الأحوال أن يظل صامتا ولامباليا تجاه مختلف القضايا التي تشغل بلاده، والعالم برمته. لذا لم يكن يتردد في تسخير قلمه ولسانه للدفاع عن الحرية، وعن الشعوب المُسْتضعفة ، وعن القيم الإنسانية النبيلة التي تدوسها الدول الكبرى، والشركات المتعددة الجنسية التي لا تأبهُ بسحق الإنسان مقابل الربح السريع ، والمصالح الآنية. وهذا ما يتضح لنا من خلال اليوميات التي دَوّنها في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا رحيل، والتي صدرت بعنوان "المفكرة " عن "دار النشر للتوزيع" بدمشق .ورغم أن الترجمة التي أنجزها عدنان حسن عن الإنجليزية، لا عن اللغة الأم ، لم تكن مُوفقة في كثير من المواضع، فإن قراءة هذه اليوميات لا تخلو من متعة، ومن إفادة خصوصا لمن يروم الإقتراب أكثر من العالم الإنساني لخوزيه ساراماغو.
وفي بداية هذه اليوميات، وتحديدا بتاريخ 15 أيلول-سبتمبر 2008، هو يمجد مدينة لشبونة التي كانت مسرحا للعديد من روايته. وهو يتوقف عند إسمها الذي شهد تغيرات عبر العهود. فقد سميت ب"أوليسيبو" ،ثم "أوليسيبونا" عندما حكمها العرب المسلمون. لكنهم سرعان ما أصبحوا يسمونها "آشبونا" .ثم"لشبونة". بعدها احتفظت باسمها البرتغالي "ليزابوا". ويكتب خوزيه ساراماغو قائلا:" كانت لشبونتي دائما لشبونة الجيران الفقراء. وعندما دفعتني الظروف، بعد سنوات عديدة، إلى العيش في بيئات أخرى، كانت الذاكرة التي فضلت دوما أن أحتفظ بها، هي ذاكرة لشبونة سنواتي الأولى، لشبونة الناس الذين يملكون القليل لكن مشاعرهم جمة، أولئك الذين لا يزالون ريفيين في عاداتهم، وفي فهمهم وإدراكهم للعالم". ويتأسف ساراماغو للتشويه الذي حدث للشبونة باسم التحديث، لكنه يقول بإن روحها ستظل حية لتجعل منها مدينة "خالدة"، و"أميرة " المدن . ويكفي لشبونة أن تظل بحسب رأيه "مثقفة، نظيفة، منظمة- بدون أن تفقد شيئا من روحها".
ويشن ّ خوزيه ساراماغو هجوما عنيفا على الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش باعتباره رمزا للكذب والخداع في عالم السياسة. وهو يرى أنه دخل "البيت الأبيض" بعقلية "الكاوبوي" الذي يعتقد أن القوة وحدها هي القادرة على ردع الخصوم، و"تهذيب" سلوك الدول "المُتنطّعَة"، وفرض المفهوم الأمريكي للديمقراطية حتى ولو أدى ذلك إلى حروب مُدمرة مثلما كان الحال في العراق. ويعترف ساراماغو بأن الولايات المتحدة الأمريكية بلد "عظيم" ، إلاّ أن ذلك لم يمنعه من أن يُبْتُلي في أكثر من عهد بحكام "صغار" بحسب تعبيره. وجورج دبليو بوش واحد من حكامها "الصغار" الذين لوثوا شرفها وعظمتها، وأباحوا لأنفسهم الكذب والخداع لتمرير سياستهم الخبيثة، وإنجاح مخططاتهم الجهنمية المعادية للسلام، وللديمقراطية نفسها. ويكتب ساراماغو في ّمفكرته" قائلا :»ثمة برنامج واحد لدى الرجل الآلي الذي هو جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة. وهذا البرنامج يعمل بطريقة تكاد تكون متناسقة ومتكاملة : الكذب. إنه يعرف أنه يكذب. وهو يعرف أننا نعرف أنه يكذب. لكن لكونه كذابا مُكْرها ، فإنه سيواظب على الكذب حتى عندما تكون الحقيقة الأكثر عرْيا ماثلة أمام عينيه". ويرى ساراماغو أن جورج دبليو بوش ازداد إمعانا في الكذب لأنه وجد نفسه محاطا داخل بلاده، خارجها بحكام وجنرالات يصفقون له لتشجيعه على مواصلة الكذب ل"يطرد في النهاية الصدق من العالم".
ويقرّ خوزيه ساراماغو بأنه كان خلال مسيرته الأدبية المديدة متعاطفا مع اليسار ، ومساندا له في كل الظروف، وفي كل المواقف. وقد يشعر بخطئه أحيانا، إلاّ أن ذلك لم يدفعه إلى القطيعة مع اليسار. لكن بعد أن أدرك سنّ الشيخوخة المريرة بدأ يتعب، ويحس بالضيق والغضب تجاه العديد من مواقف الأحزاب اليسارية في البلدان الأوروبية. وهذه الأحزاب تبدو له ضائعة، بل فاقدة للبوصلة، وبالتالي عاجزة عن بلورة برامج تعيد للسياسات الإقتصادية والإجتماعية مصداقيتها، وشعبيتها. ويرى ساراماغو أن اليسار" لم يعد يفكر"، وجبنه يمنعه من "التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام". لذلك هو يعتقد أنه ّدفع الثمن غاليا مقابل أوهامه".
ويعود ساراماغو إلى فارناندو بسوّا ، شاعر البرتغال الأكبر، مشيرا إلى أن هذا الأخير كان يحب أن يبتكر لنفسه في كل مرة اسما مستعارا . فكان ريكاردو رياس. وكان ألفارو دوكابوس. وكان ألبرتو كائييرو، وكان بارناردو سواريس. وفي ساعة الاحتضار، طلب نظارتيه. ويقول ساراماغو إنه قد يكون فعل ذلك ليعرف أي كائن أصبح قبل أن يفارق الحياة !
ويشير خوزيه ساراماغو إلى أن الديمقراطية السياسية تكون من دون فائدة إن لم تكن مدعومة بسياسة اقتصادية وثقافية ناجعة . وهو يضيف قائلا بإن "الثالوث الديمقراطي-السياسة، الاقتصاد، الثقافة- » هو الضمان الوحيد للازدهار على جميع المستويات. فإن تخلف واحد من هذا الثالوث عن الآخر، باتت مسيرة هذا البلد أو ذاك عرجاء. وقد تتهاوى في النهاية بعد أن تصبح عاجزة عن التقدم إلى الأمام.
ويرى ساراماغو أن الإستهلاك الرأسمالي المشط والجنوني المتحكم راهنا في جل المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات المتخلفة والفقيرة، أفقد الثقافة قيمتها ليصبح لا عب كرة القدم أهم وأكثر جماهيرية من مفكر أو فيلسوف أو شاعر مرموق. لذا هو يعتقد أن الإنسانية تشهد تقهقرا إلى الوراء. وقد تكون غير واعية بمثل هذا التقهقر لأن التقنيات الحديثة التي سلبت الإنسان جزءا كبيرا من إنسانيته، وحولته إلى"روبو"(كائن آلي) أعمته عن معاينة المخاطر الجسيمة التي تتهدد حاضرها ومستقبلها.
ومتطرقا إلى القضية الفلسطينية، يعود خوزيه ساراماغو إلى الأسطورة التوراتية التي تتحدث عن انتصار داوود الصغير على غوليات العملاق ليخلص إلى القول أن داوود هو غوليات. وهو يجسد الغطرسة الإسرائيلية في أبشع مظاهرها. وداود في فلسطين المحتلة الآن هو " رجل أشقر الشعر يطير فوق الأراضي الفلسطينية في طائرة هيلوكبتر، ويطلق الصواريخ على أهداف عزلاء". كما أن داوود" الذي كان بريئا ومرهف الحس" في الأسطورة التوراتية هو "يحْشد الآن أعتى الدبابات في العالم، ويسحق ويدمر كلّ ما يجده في طريقه". وفي الذكرى الأولى لوفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ، يكتب ساراماغو قائلا بأنه لو كان العالم "أكثر حساسية وذكاء، وأكثر وعيا للجلال السامي للأرواح الفردية التي يُنتجها" لكان اسم محمود درويش" معروفا على نطاق واسع، ومثار إعجاب مثلما كان، على سبيل المثال، اسم بابلو نيرودا". ويضيف خوزيه ساراماغو قائلا :»إن قصائد محمود درويش ،المُتَجذّرة في الحياة، في الآلام وفي الأشواق الأبدية للشعب الفلسطيني، تمتلك جمالا شكليا غالبا ما يزين اللحظات المبهمة التي لا توصف، بكلمات بسيطة قليلة، مثل مفكرة يمكن للمرء فيها أن يقتفي الكوارث خطوة خطوة، دمعة دمعة، لكن أيضا اللحظات العميقة ،وإن تكن نادرة ،من الفرح، لشعب أخضع للإستشهاد على مدى الأعوام الستين الماضية، التي لا يبدو أن ثمة نهاية لها في الأفق".
خوزيه ساراماغو من خلال مفكرته
مواضيع ذات صلة