: آخر تحديث
لا تتحوّل أمة إلى دولة إلا بكتابة قصة نشوئها وتطورها

هل تحتاج أميركا عملية تأريخ جديدة؟

153
152
147

عندما يتوقف المؤرخون عن دراسة أمة، لا تموت النزعة القومية فيها، بل تلتهمها الليبرالية. لكن، هل هناك خيار آخر غير محاولة صنع تاريخ أميركي جديد؟.. تاريخ يمكن أن يعمل على تنمية نزعة قومية أميركية جديدة؟.

إيلاف: تسبب كتابة التاريخ القومي مشكلات كثيرة، لكن عدم كتابته يسبب مشكلات أكثر وأسوأ. ف في عام 1986، انتقد كارل ديغلر، المؤرخ الفائز بجائزة بوليتزر والباحث في جامعة ستانفورد المرموقة، انتقد زملاءه خلال المؤتمر السنوي لجمعية المؤرخين الأميركيين، متهمًا إياهم بإهمال الواجب. وأشار إلى أنهم استنكروا النزعة القومية، لكنهم تخلوا عن دراسة الأمة.

الدولة القومية تتراجع
أعلن ديغلر في حينه: "نستطيع أن نكتب تاريخًا ينكر أو يتجاهل الدولة القومية، لكنه سيكون تاريخًا يتعارض مع ما يحتاجه الشعب الذي يعيش في دولة قومية ويطالب به". وحذر المؤرخين قائلًا إنهم إذا لم يوفروا تاريخًا قوميًا ملموسًا، فإن آخرين أقل نقدية وأقل إطلاعًا سيتولون المهمة عنهم.  

قال حكماء ذلك الزمن إن الدولة القومية في تراجع، وإن العالم أصبح متعولمًا، فما جدوى دراسة الأمة؟، ذلك أن النزعة القومية التي كانت وليدة في القرن التاسع عشر أصبحت وحشًا في النصف الأول من القرن العشرين. لكنها في النصف الثاني ماتت تقريبًا، وغدت شبحًا بشعًا يمضي بخطى متعثرة، في الأقل خارج الدول ما بعد الكولونيالية. وظن المؤرخون أنها ستموت إذا توقفوا عن دراستها.

فرانسيس فوكوياما عالم سياسي، وليس مؤرخًا، لكنه في عام 1989 أوضح فكرة ديغلر بمقال عنوانه "نهاية التاريخ". أعلن فوكوياما موت الفاشية والشيوعية في نهاية الحرب الباردة، وقُلعت في الغرب أنياب النزعة القومية، أكبر التهديدات المتبقية ضد الليبرالية، وحيث كانت النزعة القومية لم تزل حية، فإنها لم تكن في الواقع نزعة قومية. وقال فوكوياما إن غالبية الحركات القومية في العالم لا تملك برنامجًا سياسيًا يتعدى الرغبة السلبية في الاستقلال عن جماعة أخرى أو شعب آخر، ولا تقدم أجندة شاملة للتنظيم الاجتماعي-الاقتصادي. تراجع فوكوياما عن كثير مما قاله، معترفًا في كتابه الأخير بالصعود غير المتوقع للنزعة القومية الشعوبية في روسيا وتركيا والمجر وبولندا والفلبين والولايات المتحدة.

تاريخ أميركي جديد؟
لم يكن فوكوياما وحده الذي أعلن موت القومية. وهذا ما أثار قلق ديغلر. فحين تتشكل الدول القومية تصنع ماضيًا متخيَّلا، وهذا ما يفسر جزئيًا في الأقل سبب صعود الكتابة التاريخية الحديثة مع ظهور الدولة القومية. لكن دراسة الأمة لم تعد مرغوبة في دراسة التاريخ في الولايات المتحدة إبان السبعينيات. وبدأت غالبية المؤرخين تدرس أشياء أصغر أو أكبر بالبحث في خبرات وثقافات جماعات اجتماعية أو اعتماد مقاربة تاريخية أشمل على مستوى التاريخ العالمي.

عندما يتوقف المؤرخون عن دراسة الأمة، لا تموت النزعة القومية، بل تلتهمها الليبرالية. لكن، هل هناك خيار آخر غير محاولة صنع تاريخ أميركي جديد؟.. تاريخ يمكن أن يعمل على تنمية نزعة قومية أميركية جديدة؟.

تختلف الولايات المتحدة عن الأمم الأخرى، مثلما تختلف كل أمة عن الأخرى، ونزعتها القومية مختلفة أيضًا. وتواريخ الدول القومية في غالبية الأحيان لا تزيد كثيرًا على كونها أساطير تخفي الخطوط التي تربط الأمة بالدولة. لكن في الحالة الأميركية، يمكن أن نجد أصول الأمة في خطوط الربط هذه. وعندما أعلنت الولايات المتحدة استقلالها في عام 1776، أصبحت دولة، لكن ما الذي جعلها أمة؟، فالرواية القائلة إن شعبها يشترك بأصول مشتركة كانت وهمًا غير معقول، لأنهم مهاجرون توافدوا عليها من سائر أنحاء العالم.

بعد فترة طويلة على الاستقلال، كانت غالبية الأميركيين لا تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها أمة، بل كونفدرالية من الولايات كما يشير اسمها. وإحدى الطرائق لتحويل أمة إلى دولة هي كتابة تاريخها.
 
عظيمة لأنها مستقلة
احتفى مفكرو الدولة الفتية بالولايات المتحدة بوصفها أمة تعددية وكوزموبوليتانية أسلافها مهاجرون جاءوا من سائر أنحاء العالم. تعود أصول اللغة التي تتكلمها إلى الهند، ودينها من فلسطين، وسُمع بعض ترانيم كنائسها في إيطاليا أول مرة، والبعض الآخر في الجزيرة العربية، والبعض الثالث على ضفاف الفرات. تأتي فنونها وآدابها من اليونان، ويأتي فقهها القانوني من روما. فهم الأميركيون الدولة القومية في سياق مجموعة ناشئة من الأفكار التي تتناول حقوق الإنسان، وهي أن سلطة الدول تضمن لكل مواطن المجموعة نفسها من الحقوق السياسية.

كتب فرانسيس ليبر، الفيلسوف السياسي الأميركي المولود في بروسيا، أن الدول من دون هوية قومية لا يمكن أن تحقق استمرارية المجتمع السياسي الضرورية لتقدمها.

في هذه الأثناء، تغيرت القومية ابتداء من العقد الثاني للقرن العشرين، خصوصًا في ثلاثينياته. وكلما ازدادت النزعة القومية بشاعة وعداء لليبرالية، زادت قناعة الليبراليين باستحالة وجود قومية ليبرالية. وفي الولايات المتحدة، ارتدت النزعة القومية الأميركية من حيث الأساس شكل حمائية اقتصادية وسياسة انعزالية. وفي عام 1917، رفع بارون النشر وليام راندولف هيرست، الذي عارض دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، شعار "أميركا أولًا"، واتخذ الموقف نفسه في عام 1938، مصرًا على أن "الأميركيين يجب أن يحافظوا على السياسة التقليدية لأمتنا العظيمة والمستقلة، عظيمة لأنها مستقلة أساسًا".
 
الصفقة اليهودية
في السنوات التي سبقت دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، ذهب بعضهم إلى حد تأييد هتلر. واستخدم القس تشارلز كوفلين، الذي كاد يرشح للرئاسة، وكان مذيعًا ذا شعبية واسعة، الراديو لترويج معادة السامية وإبداء إعجابه بهتلر والحزب النازي، داعيًا مستمعيه إلى تشكيل حزب جديد باسم الجبهة المسيحية.

في عام 1939، احتشد زهاء 20 ألف أميركي، ارتدى بعضهم بدلات نازية، في قاعة ماديسون سكوير غاردن في نيويورك التي زُينت بالصلبان المعقوفة والأعلام الاميركية مع ملصقات ولافتات تعلن "تظاهرة جماهيرة من أجل القومية الأميركية الحق"، حيث شجبوا سياسة روزفلت الجديدة بوصفها "الصفقة اليهودية". هتلر، من جانبه، أبدى إعجابه بالانفصاليين الجنوبيين، وأعرب عن أسفه لأن الحرب الأهلية الأميركية دمرت مشروع إقامة نظام اجتماعي جديد على مبدأ العبودية واللامساواة.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كتب مؤرخون أميركيون تاريخ الولايات المتحدة بوصفه قصة توافق "وتقليد ليبرالي ثابت في اميركا"، بحسب العالم السياسي لويس هارتز. وفي عام 1949 كتب آرث شليسنجر قائلًا إن الليبراليين يحتلون "المركز الحيوي" للسياسة الأميركية. وكان هؤلاء المؤرخون غافلين عن أمور كثيرة، وخاصة قوى النزعة المحافظة والأصولية، ولكنهم مع ذلك قدموا صورة ليبرالية شاملة لتاريخ الأمة الأميركية والشعب الأميركي.
 
القومية بدعة ووهم
كان كتاب ديغلر الصادر في عام 1959 أفضل تاريخ شعبي للولايات المتحدة كُتب في القرن العشرين، وهو عمل فذ شديد التأثر بأفكار المؤرخ والسوسيولوجي الأميركي وليام دو بويز، يضع العرق والعبودية والفصل العنصري والحقوق المدنية في مركز قصة أميركا إلى جانب الحرية والحقوق والثورة والمساواة. والمدهش أنه كان كتاب ديغلر الأول، والأخير من نوعه.

إذا كان حب الأمة هو ما دفع المؤرخين الأميركيين إلى دراسة الماضي في القرن التاسع عشر، فإن كراهية النزعة القومية هي ما دفعت المؤرخين الأميركيين بعيدًا عنه في النصف الثاني من القرن العشرين.
 
أصبح واضحًا منذ فترة طويلة أن القومية بدعة ووهم. وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأ أُمميون يتوقعون نهاية الدولة القومية، فيما أعلن العالم السياسي روبرت أميرسون من جامعة هارفرد "أن الأمة والدولة القومية ظواهر بالية عفا عليها الزمن في العصر الذري".

بحلول ستينيات القرن العشرين، بدت القومية أسوأ من ظاهرة عفا عليها الزمن. ومع مجيء الحرب الفيتنامية، توقف المؤرخون الأميركيون عن دراسة الدولة القومية لأسباب عدة، منها خشية التواطؤ مع فظائع السياسة الخارجية الأميركية، ومنظومات القمع السياسي في الداخل. وذهب التفكير وقتذاك إلى أنه إذا كانت القومية مرضًا، فإن كتابة تواريخ قومية أحد أعراضه، وشكل آخر لصناعة الأساطير.
 
كوزموبوليتانية أميركية
شهد عقد الستينات أيضًا إقبال نساء وزنوج على مهنة التأريخ، وكتبوا تواريخ ثورية جديدة غنية، طارحين أسئلة مختلفة، وخالصين إلى استنتاجات مختلفة.

شهد البحث التاريخي ثورة، وأصبح أغنى بما لا يُقاس وأكثر تطورًا. وشكك العديد من المؤرخين الذين ينتمون إلى المدرسة القديمة في قيمة هذا البحث التاريخي. لكن ديغلر لم يكن واحدًا منهم، بل أسهم في قسط فيه. كانت غالبية المؤرخين الذين كتبوا عن العرق من غير البيض، وغالبية المؤرخين الذين كتبوا عن المرأة من الجنس الآخر. لكن ديغلر الأبيض كان أحد مؤسسي المنظمة الوطنية للمرأة، وفاز بجائزة بوليتزر في عام 1972 عن كتابه "لا أسود ولا أبيض". مع ذلك، كان لديه تحفظ، لأن غالبية البحث التاريخي الأميركي الجديد ليس "عن الولايات المتحدة، وإنما في الولايات المتحدة فحسب".

بحلول عام 1986، عندما نهض ديغلر لإلقاء كلمته أمام جمعية المؤرخين الأميركيين، بدأ كثير من المؤرخين الأميركيين يدعون إلى شكل من الكوزموبوليتانية الأميركية، مدونين تاريخًا عالميًا، وليس تاريخًا قوميًا.

لكن ديغلر لم يصبر كثيرًا على ذلك. وبعد سنوات قليلة، في إثر اندلاع حرب البوسنة، أعلن الفيلسوف السياسي مايكل وولتزر بسوداوية "عودة القبائل". وهي في الحقيقة لم ترحل كي تعود، وكل ما في الأمر أن رؤيتها أصبحت أصعب على المؤرخين لأنهم توقفوا عن البحث.
 
 
 
أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "فورين أفيرز". الأصل منشور على الرابط:
https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2019-02-05/new-americanism-nationalism-jill-lepore
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات