عندما نودي على الفائز بشخصية العام (2025)، الكاتب والإعلامي فخري كريم، لتسليمه أكبر جوائز «قمة الإعلام العربي» بدبي، قفزت إلى ذهني أفكارٌ شتى، فدبي رشحته ولم تفكر بالسياسي الثّوريّ، إنما بالإعلامي العريق، ولم يمنعها أنَّ حزبه، في الأمس، كان يعمل على تصدير الأيديولوجيّة، لنشر التقدمية في المضارب (الرّجعيَّة). فمِن شباب الخليج والجزيرة مَن درس النَّظرية برعاية حزبه ببغداد، يوم كانت المنطقة هدفاً للعمل الثَّوريّ.
إنها مفارقةٌ كبرى، ففخري في المعارضة العراقيّة (التسعينيات)، وكان ضمن الوفد، الذي استضافته إحدى دول المنطقة، نسي نفسه وخاطب مَن قابلهم بلقب «رفيق»، لكنهم لم يستنكروا، إنما ظلوا يسألون باستئناس: أين «الرّفيق»؟
يومها اكتشف الطّرفان (الرجعي والتقدمي) أنهما أمام إعصار جارف طوى العِراق. لا أخفي، كنت قلقاً، بسبب طموحات فخري السَّابقة، أنه سيلقي مِن على المنصة خطاباً خارج الزّمن، انتصاراً للماركسيَّة مثلاً، طبعاً هذا وهمٌ مني، غير أنَّه ورفاق الأمس، أدركوا أنَّ الزّمن قد تبدل، والثّوريّة تعني العُمران والتّنمية.
فكم بدت دبي ثورية لفخري بعمرانها، وغدت مدركةً أنَّ تاريخه، رغم الاختلاف، يستحقّ الجائزة، وهو أول عراقيّ ينالها. كان فخري متقدماً في الصَّحافة والثّقافة والسّياسة، بدايات الثَّلاثة منذ الخمسينيات الماضيات: صحفي، ومنشئ جريدة، ومجلة، ودار نشر، مع العمل الحزبيّ، تجربة تقلبت بين نجاح وفشل، استمرت مجلتا «المدى» الثّقافيّة، و«النّهج» الفكريّة، لعقدين (الثمانينيات والتسعينيات)، وكانتا أهم نجاحاته. توقفت «النّهج»، واستبدلت جريدة «المدى» بمجلة «المدى».
أنشأ فضائية «المدى»، لكنها أرهقته فأغلقها، رافضاً عروض سد تكاليفها مِن جهة همها الاستيلاء على العواصم مِن داخلها، وهو يعلم عبثها بدماء الشَّباب العراقيين، وكان سندهم. أما فخري السّياسيّ، بعد أنْ قضى ثلاثة أرباع عمره (ولد: 1942) ماركسيّاً منتظماً، صار العمل الحزبيّ ماضياً يعتز به. كلف بتأسيس مجلة «الفكر الجديد» (العربيّة والكرديّة 1970)، وكان الأصغر سناً في اتحاد الأدباء (1959)، ورئيسه الجواهريّ (ت: 1997).
أصبح نائباً لنقيب الصَّحفيين العراقيين (1970-1980)، مع وظيفته مديراً لتحرير «طريق الشّعب»، الجريدة التي كان صوتها الثَّقافي، أعلى مِن صوتها السّياسيّ، ودفع تأثيرها الثّقافيّ، خلال الجبهة مع «البعث» (1973-1979) السُّلطة، يومذاك، إلى الاتفاق مع محمد باقر الصّدر (أعدم: 1980)، لإعادة نشر كتابه «فلسفتنا»، ظناً أنّ الكتاب ينفع لمواجهة رفاق فخري، وعلى هذا الأساس زار مدير الأمن العام فاضل البراك (أعدم: 1993) الصّدرَ في داره بالنَّجف، فصدرت عن «دار الميناء» (النُّعماني، الشَّهيد الصَّدر سنوات المحنة...) - النّعماني بمثابة حاجب الصَّدر ومدير أعماله - تلك معارك شرسة كان لفخري باعٌ فيها، حتّى اعتقاله وخروجه سراً، ليبدأ معاركه مِن المعارضة. لستُ بمحلِ الكتابة عن فخري كريم، الإعلاميّ والسياسي والنَّاشر، فـ«المدى» اليوم إحدى أهم الدّور العربيّة، نوعاً وكماً، ولا أتحدث عن دوره منذ (ربيع 2003) وحتَّى اليوم، في مواجهة ما يقوم به الإسلام السّياسيّ مِن تخريب، وإن لم تحفظ له الجهود الثّقافيّة التّنويريّة، فكيفيه هذا الدور فضلاً. لهذا صببت اهتمامي على الجائزة التي استحقتها تجربته في الإعلام والصّحافة طوال العقود، ورمزيّة هذا الفوز للعراق، مِن منتدى إعلاميّ عربي، أثبت نجاحه خلال الثلاثة والعشرين عاماً مِن وجوده.
أقول: قبل أكثر مِن ثلاثين عاماً قد يصعب على فخريّ الثَّوريّ هذا الموقف، وقد لا ترصد له جائزة كبرى، نقصد فخري السّياسيّ الحزبيّ، لكنّ الزَّمن قد تبدل، والأيام جرت حُبلى بالجديد، وتبدلت المفاهيم والرُّؤى، فعرف فخري أنّ أصدق الثوار هم معمرو الأوطان. هذا، ولأبي الطّيب (اغتيل: 354هج) قولٌ: «أفاضل النُّاس أغراضٌ لذا الزَّمنِ/ يخلو مِن الهمِّ أخلاهم مِن الفِطنِ» (الجرجانيّ، الوساطة)، وفخري ذو تجربةٍ زادته الهمَّ والفطنةَ، تجاوز بها الخطاب الخشبيّ، الذي لا يسمن ولا يغني، معترفاً بثورةٍ أحالت الرّمل اليبيس حدائقَ، وأسست عمراناً بلا سوابق، ومنحه الجائزة مظهرٌ لهذا العمران.