: آخر تحديث

بين الدخل وتكاليف الحياة أين يضيع قرار الزواج؟

3
2
3

يُقال كثيراً إن تأخر الزواج أزمة قيم، وإن الجيل الجديد أقل التزاماً وأكثر تردداً، وكأن العزوف عن الزواج قرار فردي نابع من الكسل أو ضعف المسؤولية. هذا الخطاب المريح أخلاقياً يتجاهل حقيقة أساسية: الشباب لا يؤجلون الزواج لأنهم لا يريدونه، بل لأن كلفته أصبحت أعلى من قدرتهم على الاحتمال. تأخر الزواج اليوم ليس ظاهرة اجتماعية معزولة، بل نتيجة مباشرة لاختلالات اقتصادية عميقة تُدار غالباً وكأنها لا علاقة لها بالحياة اليومية للناس.

الشاب الذي يتخرج في الثالثة والعشرين أو الرابعة والعشرين، يبدأ حياته العملية متأخراً، بدخل محدود، في سوق عمل غير مستقر، وبفرص ترقٍ بطيئة. في المقابل، يواجه تكاليف معيشة مرتفعة، وأسعار سكن متصاعدة، ونمط حياة باتت فيه المتطلبات الأساسية تُسوَّق على أنها ضرورات اجتماعية. حين يُطلب من هذا الشاب أن يكون مستعداً للزواج خلال سنوات قليلة، فإن السؤال المنطقي لا يكون: لماذا تأخر؟ بل: كيف يمكنه أن يبدأ أصلاً؟

اقتصادياً، الزواج لم يعد حدثاً اجتماعياً بسيطاً، بل مشروعاً مالياً مكلفاً. الإيجارات تلتهم جزءاً كبيراً من الدخل، وتملك السكن بات حلماً بعيد المنال لشريحة واسعة من الشباب. الأجور في كثير من القطاعات لم تواكب التضخم، بينما ارتفعت تكاليف الحياة بوتيرة أسرع من نمو الدخل. في هذا السياق، يصبح تأجيل الزواج قراراً عقلانياً لا هروباً من المسؤولية. فالدخول في التزام أسري دون حد أدنى من الاستقرار المالي قد يعني الانتقال من ضغط فردي إلى أزمة أسرية.

اجتماعياً، يُمارَس ضغط مزدوج على الشباب. من جهة، يُطالَبون بالاستقرار والزواج في سن مبكرة، ومن جهة أخرى، يعيشون في بيئة اقتصادية تعاقب الاستقرار وتكافئ المرونة والتنقل. الوظائف المؤقتة، والعمل الحر غير المستقر، والعقود القصيرة، كلها نماذج عمل لا تتسق مع متطلبات تكوين أسرة تقليدية. ومع ذلك، يُلام الأفراد على نتائج لم يصنعوا شروطها.

الأثر لا يقف عند تأخر الزواج فقط، بل يمتد إلى بنية المجتمع. تأخر تكوين الأسر يعني انخفاض معدلات الإنجاب، وتغير التركيبة السكانية، وارتفاع معدلات الوحدة والعزلة، وما يصاحب ذلك من آثار نفسية واقتصادية طويلة المدى. المجتمعات التي تتجاهل هذه التحولات، وتتعامل معها بوصفها انحرافاً قيمياً، تفوّت فرصة معالجة جذور المشكلة قبل أن تتحول إلى أزمة ديموغرافية حقيقية.

جزء من الإشكال يعود إلى السياسات التعليمية والوظيفية. إطالة سنوات التعليم دون ربطها بسوق العمل تؤخر الاستقلال المالي. ضعف التعليم المالي يجعل كثيراً من الشباب يدخلون الحياة العملية دون أدوات إدارة الدخل أو التخطيط طويل الأمد. وفي الوقت نفسه، تُترك قضايا الإسكان والأجور وكأنها ملفات اقتصادية منفصلة عن الاستقرار الاجتماعي، بينما هي في الواقع أساسه.

الحديث عن الزواج بوصفه مسؤولية أخلاقية فقط يتجاهل حقيقة أن المسؤولية تحتاج إلى بيئة ممكنة. لا يمكن مطالبة شاب ببناء أسرة مستقرة في اقتصاد لا يمنحه استقراراً وظيفياً، ولا دخلاً كافياً، ولا مساراً واضحاً للنمو. الحل لا يكمن في الوعظ، بل في سياسات ذكية تعيد التوازن بين الدخل وتكاليف الحياة، وتربط التعليم بالتوظيف، وتتعامل مع السكن بوصفه حقاً اجتماعياً لا سلعة استثمارية فقط.

تأخر الزواج ليس فشلاً فردياً، بل مؤشر اقتصادي اجتماعي. كلما ارتفعت كلفة الحياة مقارنة بالدخل، وكلما طال طريق الاستقرار المهني، تأخر الزواج تلقائياً. تجاهل هذه المعادلة لا يغير الواقع، بل يزيد الفجوة بين الخطاب والعيش الفعلي للناس. إذا أردنا مجتمعاً مستقراً، فإن الطريق لا يمر عبر لوم الشباب، بل عبر اقتصاد يمنحهم فرصة حقيقية لبناء حياة قابلة للاستمرار.

ولمن يصرّ على اختزال المسألة في بعدها القيمي، تكفي نظرة سريعة إلى الأرقام لفهم حجم الفجوة. في معظم الدول العربية، تتراوح معدلات بطالة الشباب بين 15 بالمئة و30 بالمئة، بينما يعمل جزء كبير ممن هم على رأس العمل في وظائف بدخل محدود أو غير مستقر. متوسط الأجور في كثير من القطاعات لا يتجاوز بالكاد مستوى المعيشة، في وقت تلتهم فيه تكاليف السكن وحدها ما بين 30 بالمئة و50 بالمئة من دخل الشاب الشهري، إن لم يكن أكثر في المدن الكبرى.

أما تكلفة الزواج نفسها، فقد تحولت لدى بعض الأسر من مناسبة اجتماعية إلى عبء مالي ثقيل. المهر، وتأثيث المسكن، ومراسم الحفل، وتكاليف القاعة والضيافة، والهدايا، قد ترفع كلفة الزواج في كثير من الحالات إلى ما يعادل دخل عدة سنوات لشاب في بداية حياته المهنية. في بعض المجتمعات، تتجاوز هذه التكاليف عشرات الآلاف من العملات المحلية، وهو رقم لا يمكن تغطيته إلا بالديون أو المساعدات العائلية. ومع تدني الرواتب وارتفاع الالتزامات، يصبح قرار التأجيل منطقياً أكثر من الدخول في التزام مالي خانق منذ اليوم الأول.

اللافت أن هذه التكاليف لا ترتبط دائماً بالقدرة الفعلية، بل بالضغط الاجتماعي والمقارنات، حيث يُنظر إلى التبسيط وكأنه تقصير، بينما يُكافأ الإسراف رمزياً. والنتيجة أن الزواج، الذي يُفترض أن يكون خطوة نحو الاستقرار، يتحول إلى مصدر قلق مالي مزمن، يلاحق الأزواج لسنوات طويلة بعد الحفل.

عند جمع هذه العوامل معاً تأخر الدخول لسوق العمل، تدني الأجور، ارتفاع تكاليف السكن، وتضخم كلفة مراسم الزواج يتضح أن تأخر الزواج ليس لغزاً أخلاقياً، بل معادلة اقتصادية واضحة. كلما اختل التوازن بين الدخل وتكاليف الحياة، تأخرت القرارات المصيرية مهما كانت الرغبة حاضرة.

لكن الإقرار بالمشكلة لا يكفي ما لم يُرافقه تفكير جاد في الحلول. معالجة تأخر الزواج تبدأ أولاً من الاقتصاد لا من الخطاب الأخلاقي. رفع جودة وفرص التوظيف، وربط الأجور بمستويات المعيشة الحقيقية، وتقليص الفجوة بين التعليم وسوق العمل، كلها خطوات أساسية تسرّع الاستقلال المالي للشباب. فالشاب الذي يمتلك دخلاً مستقراً ومساراً وظيفياً واضحاً، يتخذ قراراته الحياتية بثقة أكبر.

ثانياً، تمكين الشباب في ملف الإسكان يُعد عاملاً حاسماً. توفير خيارات سكن ميسرة، وتشجيع الإيجارات طويلة الأجل بأسعار منضبطة، وتوسيع برامج التمويل السكني الموجهة للشباب، كلها سياسات تنعكس مباشرة على قرار الزواج. لا يمكن الحديث عن أسرة مستقرة في ظل سكن غير مستقر أو مستنزف للدخل.

ثالثاً، لا بد من مراجعة الثقافة الاجتماعية المرتبطة بتكاليف الزواج. التبسيط لا يجب أن يُنظر إليه كفشل اجتماعي، بل كخيار عقلاني. تشجيع النماذج البسيطة، والحد من المبالغة في المهور والحفلات، ونقل النقاش من المظاهر إلى الاستدامة، مسؤولية مجتمعية تشترك فيها الأسر والمؤسسات الدينية والإعلامية.

رابعاً، إدخال التعليم المالي في مراحل مبكرة من التعليم أصبح ضرورة لا ترفاً. كثير من الشباب يدخلون الحياة العملية دون فهم لإدارة الدخل، أو الادخار، أو التخطيط طويل الأمد، مما يضاعف شعور العجز حتى مع وجود دخل مقبول. بناء الوعي المالي يعزز القدرة على اتخاذ قرارات أسرية متزنة.

في النهاية، الزواج ليس أزمة قيم، بل مرآة لواقع اقتصادي. وحين يُعاد التوازن لهذا الواقع عبر سياسات ذكية وثقافة اجتماعية أكثر واقعية، سيعود الزواج إلى مساره الطبيعي كخطوة استقرار لا عبء مالي. السؤال لم يعد لماذا يتأخر الشباب عن الزواج، بل متى نبدأ بمعالجة الأسباب الحقيقية التي جعلت الاستقرار حلماً مؤجلاً.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.