: آخر تحديث

انقلاب في السياسة الخارجية الأميركية

2
1
2

ما هي الاستراتيجية الأميركية؟ هكذا عنونت الولايات المتحدة الأميركية وثيقة الأمن القومي الأميركي، والتي تُعَدّ انقلاباً، من وجهة نظري وربما وجهة نظر الكثيرين أيضاً، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية.

إجابة السؤال السابق تكمن في التمعّن بمفردات هذه الوثيقة، التي صيغت بعناية لوصف الاستراتيجية الجديدة. ربما يجنح القارئ العربي إلى النظر فقط في الجزئية المتعلقة بالشرق الأوسط داخل صفحاتها، ولكن للوصول إلى فهم دقيق لذلك لا يجب اقتطاعه من السياق العام للاستراتيجية، وكذلك يجب علينا التمحّص بدقة في المفردات المستخدمة في هذا النص للوصول إلى قراءة أكثر شمولاً ودقة، وخصوصاً في النص باللغة الإنكليزية.

سأبدأ من السؤال الأول الذي طُرح، وهو: كيف ضلّت الاستراتيجية الأميركية طريقها؟ وهذا بحد ذاته يعبّر عن التغيير، حيث اعتبرت هذه الوثيقة أن الاستراتيجية السابقة كانت ضالّة. وعليه، يجب تصحيح ذلك عبر خطة ملموسة وواقعية تشرح الرابط الأساسي بين الغايات والوسائل كما ورد بدقة في النص، وأن ذلك ينطلق من تقييم دقيق لما هو مرغوب، وما هي الأدوات المتاحة أو التي يمكن إنشاؤها لتحقيق النتائج المرجوّة.

كذلك، فإن إعادة تعريف هدف السياسة الخارجية الأميركية، بأنه هو التركيز الوحيد لهذه الاستراتيجية، يضع بما لا يدع مجالاً للشك أن التغيير ليس عشوائياً، بل هو نتاج تقييم شمولي لما كانت عليه السياسة الأميركية في السابق. وأن الأمر الأساسي في قلب هذه الوثيقة هو الاقتصاد، وأن ما كانت تفعله سابقاً الولايات المتحدة من تحمّل أعباء مالية كبيرة نتيجة لتلك السياسة لم يعد صالحاً، بل إن شعار أميركا أولاً هو الذي سيسود، وهو الذي يعبّر بكل اقتدار عن هذه الوثيقة.

في المقابل، فإن طريقة طرح الأسئلة وتحديد الإجابات عليها جاءت لتجعل من هذه الوثيقة كما لو أنها تجيب عن تساؤلات تجول في خاطر الجميع وبشكل دقيق.

هذه الوثيقة تقدّم رؤية استراتيجية شاملة للسياسة الخارجية والأمن القومي الأميركي من منظور الرئيس دونالد ترامب، بحيث تعتمد على نقد الاستراتيجية الأميركية السابقة منذ نهاية الحرب الباردة، واصفة إياها بأنها قوائم أمنيات غير واقعية، تفتقر إلى التركيز وتعريف واضح للمصلحة الوطنية. وتقول إن النخبة الأميركية بالغت في تقدير استعداد الشعب الأميركي لتحمّل أعباء عالمية غير مرتبطة بمصالحه، والقدرة على تمويل دولة رعاية اجتماعية ضخمة مع مجمّع عسكري ـ دبلوماسي عالمي في آن واحد، وتطرح إشكاليات تتعلق بفوائد العولمة والتجارة الحرة التي أفقرت الطبقة الوسطى والقاعدة الصناعية الأميركية.

وقد حدّدت الوثيقة الأهداف الاستراتيجية على الصعيدين الداخلي والخارجي تحت سؤال: ماذا تريد الولايات المتحدة؟ وأجابت عنها بأن أهدافها الداخلية تتلخّص في بقاء وسلامة الولايات المتحدة كجمهورية ذات سيادة، تسيطر بالكامل على حدودها، وخصوصاً في ما يتعلق بموضوع الهجرة وتهريب المخدرات، في ظل جيش ذي ردع نووي وحديث، واقتصاد قوي يعتمد على الصناعة والطاقة والتكنولوجيا، والعودة إلى الثقافة والتقاليد الكلاسيكية في ظل قوة ناعمة تفتخر بتاريخها وهويتها الوطنية.

أما على الصعيد الخارجي، والتي سمّتها الوثيقة المصالح الحيوية، فقد حدّدتها جغرافياً في أربع مناطق رئيسية، بالإضافة إلى موضوع التكنولوجيا المتعلق بالذكاء الاصطناعي، والتي ترى الوثيقة أنه يجب أن تضمن قيادة التكنولوجيا والمعايير الأميركية لها.

ومن الناحية الجغرافية، بالنسبة إلى نصف الكرة الغربي، فقد فعّلت الوثيقة مبدأ مونرو، والمُحسَّن من قبل الرئيس ترامب، والذي تم التأكيد فيه على موقع مهيمن ومسيطر للولايات المتحدة على المستوى العالمي، من خلال الهيمنة والسيطرة على الجزء الغربي من الكرة الأرضية، بحيث تتمكّن الولايات المتحدة من حماية نفسها أمام النمو الاقتصادي السريع للصين، في ظل تراجع قدرات أوروبا العسكرية والاقتصادية، والذي تعكسه في الوقت الحالي الخلافات السياسية الواضحة بين الولايات المتحدة وأوروبا.

أما بالنسبة إلى منطقة الهندو ـ باسيفيك، فتلخّص الوثيقة ضرورة وقف الضرر الاقتصادي الأجنبي، والحفاظ على حرية الملاحة وسلاسل التوريد، وعلى أنها ستكون ساحات المعارك الاقتصادية والجيوسياسية الرئيسية للقرن القادم.

وفي الجزء المتعلق بأوروبا، تؤكّد الولايات المتحدة دعم حلفائها مع التشديد على استعادة هويتها الغربية، ولكن في إطار تقاسم الأعباء وتحويلها، تحت ما سُمّي التزام لاهاي، الذي يتعهّد بموجبه حلفاء الناتو بإنفاق 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وكذلك تعزيز الدبلوماسية التجارية لعمل التوازن المطلوب في التبادل التجاري، متخلّية عن النظام القديم.

أما أفريقيا، فقد وضعت الوثيقة سياسة جديدة تعتمد على الانتقال من علاقة تركّز على المساعدات مع دول القارة الأفريقية إلى علاقة تركّز على التجارة والاستثمار، مفضّلة الشراكة مع دول قادرة وموثوقة ملتزمة بفتح أسواقها للسلع والخدمات الأميركية، بما يشمل مجالاً فورياً للاستثمار الأميركي في القارة، وذلك في قطاع الطاقة وتطوير استخراج المعادن الحرجة، وكذلك تطوير تكنولوجيات الطاقة النووية والغاز البترولي المسال والغاز الطبيعي المسال المدعومة أميركياً، وأن ذلك سيساعد في المنافسة على المعادن الحرجة والموارد الأخرى.

وأخيراً، في ما يتعلق بالشرق الأوسط، وهنا الجديد بالنسبة إلينا، فإن السياسة الأميركية تعيد صياغة الاستراتيجية بالكامل من خلال إحياء تحالفها مع دول الخليج العربي، ومع شركاء عرب آخرين، ومع إسرائيل، ولكن على قواعد مختلفة، تعتمد على تحوّل المنطقة بشكل متزايد إلى مصدر ووجهة للاستثمار الدولي، وفي صناعات تتجاوز بكثير النفط والغاز الذي كان سائداً لعقود. ويشمل ذلك الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع، وأيضاً تعزيز المصالح الاقتصادية الأخرى، من تأمين سلاسل التوريد إلى تعزيز فرص تطوير أسواق صديقة ومفتوحة في أجزاء أخرى من العالم مثل أفريقيا، والتركيز على أن مفتاح العلاقات الناجحة مع الشرق الأوسط هو تقبّل المنطقة وقادتها ودولها كما هم، مع العمل معهم في مجالات الاهتمام المشترك، وتشجيع وإحياء الإصلاح أينما وُجد، وكذلك منع هيمنة قوة معادية على الطاقة في تلك المنطقة، وتجنّب الحروب الأبدية، وأن تُعطي الأولوية أخيراً للمصالح الأميركية.

هنا أتوقّف لأقول إن هذه الوثيقة، في إطارها العام، عبّرت بدقة عن مشروع السلام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية مع المملكة العربية السعودية، مما يعزّز الثقة في هذا المشروع، وأن السياسات السابقة التي كانت تصبّ في صالح إسرائيل بالمطلق قد انتهت، وأن هناك رأياً عاماً أميركياً جديداً عكسته هذه الوثيقة يدعم هذا التغيير، أصبحت فيه إسرائيل غير قادرة على التأثير في السياسة الأميركية الخارجية، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والوضع بشكل عام في الشرق الأوسط كما كانت خلال عقود ماضية، بل أصبحت هي نفسها خاضعة بالكامل للسياسة الأميركية.

وعليه، يمكن أن توصف الوثيقة بأنها خطة استراتيجية واقعية ومركّزة على المصالح الوطنية الأميركية الأساسية، وتنبذ الهيمنة العالمية لصالح فلسفة أميركا أولاً. تدمج بين القوة العسكرية الصلبة والأمن الاقتصادي، خاصة عبر إعادة التصنيع وهيمنة الطاقة، وتطالب الحلفاء بتحمّل مسؤوليات أكبر، وتُظهر شكلاً من أشكال العزلة الانتقائية، حيث ترفض التدخل في مناطق هامشية، لكنها تُصرّ على الهيمنة الإقليمية في نصف الكرة الغربي والتفوّق التنافسي في آسيا، وسياسة جديدة بالكامل في الشرق الأوسط. وعندما ننظر إلى الصورة الشاملة ومن مختلف زوايا الاستراتيجية الجديدة، التي تعبّر عن الانقلاب الكبير في مختلف النواحي، سنرى بكل تأكيد المقاصد بشكل أفضل وأكثر وضوحاً، خصوصاً في ما يتعلق بمنطقتنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.