لم تكن الحلقة الأخيرة من برنامج "الاتجاه المعاكس" التي قدّمها الإعلامي فيصل القاسم بتاريخ 2/12/2025، بعنوان: "ماذا جنى السوريون بعد عام من سقوط نظام الأسد… إنجازات أم سراب؟"، مجرد حلقة أخرى تتقاطع مع تاريخ طويل من الجدل؛ بل جاءت كمرآة صريحة لأسلوب بدا ـ هذه المرة ـ أقرب إلى الاضطراب منه إلى تلك الوقفة المتأهّبة التي اعتاد القاسم أن يقف عليها، متذرعًا بما يسميه دومًا "الحياد المتوتر"، أو "الوقوف على خط الوسط". غير أن الوسط في هذه الحلقة بدا مائلاً، ينزلق بلا مقاومة نحو طرفٍ واحد، كأن ميزان العدالة الإعلامية قد أسلم روحه ليدٍ ترجّح الكفة ولا تضبطها.
وأنت تتابع الحلقة، لم يكن بوسعك أن تغفل ذلك النقص الفادح في الإنصاف، ذلك الغياب الذي لم يطل أطراف الحوار فحسب، بل طال فكرة الحوار نفسها. فالمحاور الذي ادّعى طويلاً أنه يحرس المسافة بين الضيفين، بدا ـ على نحو يثير الانتباه والأسى معًا ـ وكأنه يزحف خارج موقعه ليقترب من طرفٍ بعينه، ويشدّ من أزره، ويتيح له ما لم يتيحه لسواه.
ولستُ هنا في مقام الاعتراض على ما طرحه الباحث والكاتب السياسي الكردي شيفان خابوري، ولا على جدية رؤيته أو قوّة حجته، لكنّ ما أثار الدهشة حقًا هو أن القاسم ـ بدلاً من أن يدير الحوار بإنصاف ـ تحوّل إلى الطرف الأكثر شراسة في مواجهته. فقد ضيّق عليه مساحة الكلام، وقاطعه مرارًا، وقلّص الزمن الممنوح له حتى غدا حديثه أشبه بمحاولة النجاة من قيود غير مرئية. بينما بدا الطرف الآخر، محمد أبو الفرج صادق، وكأن الزمن قد فُتح أمامه بلا حدود، يتحدث متى شاء، ويسترسل كيفما شاء، دون مقاطعة أو مساءلة، حتى خُيِّل للمشاهد أن دقائق الحلقة كُتبت باسمه قبل أن تبدأ!
كان من الطبيعي ـ بل من الضروري ـ أن يمنح برنامج يقوم أساسًا على الجدل الثنائي كلاً من المتحدثين حقه في التعبير، وساحته العادلة ليعرض رؤيته. غير أنّ القاسم، وبما بدا جليًا للمشاهد منذ اللحظات الأولى، مال ميلاً واضحًا لصالح خطابٍ مدافع عن الحكومة السورية الحالية، متخليًا عن ذاك القناع الإعلامي الذي يفرض عليه الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. بدا وكأنه يهيئ الأرض للطرف المقرب إليه كي يظهر أكثر ثباتًا وإقناعًا، بينما يدفع شيفان خابوري إلى زاوية دفاعٍ مستميت، لا لشيء إلا لأن المقدم نفسه صار جزءًا من الهجوم عليه، ثم لا يتردد في اتهامه بالكذب!
فأي عدلٍ يمكن أن يَنبت في أرضٍ رجّحت فيها الكفّة قبل أن يبدأ النقاش؟
وأي إنصافٍ يستحق اسمه حين يكون المايكروفون نفسه مشدودًا باتجاه واحد، والرياح كلها تهبّ من جهة واحدة؟
وبعد عامٍ كامل على سقوط نظام الأسد، كان السوريون يتقاسمون سؤالًا وجوديًا: هل دخلت البلاد فعلاً عهدًا جديدًا، أم أنّ التاريخ يعيد تشكيل نفسه بأقنعة جديدة وأسماء معدّلة، بينما يظلّ الألم القديم هو ذاته، لا يتغير إلا في الوجوه التي تحمله؟
هذا هو السؤال الذي حاول القاسم أن يطرحه في الحلقة، مستضيفًا طرفين يحمل كل منهما رؤية مختلفة لحصيلة عامٍ كامل من "التحرير".
الأول: البروفيسور الدكتور محمد أبو الفرج صادق، والثاني: الباحث والكاتب السياسي شيفان خابوري.
استهلّ القاسم نقاشه بما أسماه "مؤشرات التحول التاريخي": انهيار المنظومة الأمنية السابقة، رفع العقوبات الدولية، وعودة حرية الحركة عبر المطارات دون خوفٍ من الاعتقال. وراحت كلماته تتدفق بحماسة غير معتادة، كأنها لا تصف واقعًا محايدًا، بل بشرى يريد إيصالها، أو رؤية يتبناها ويحرص على تثبيتها في وعي المتلقي. وصف هذه التحولات بأنها "غير مسبوقة منذ الاستقلال"، وكأن سوريا ـ بعد عقود من الانغلاق ـ تفتح صفحة بيضاء تنتظر من يكتب عليها تاريخًا جديدًا.
لكنّ الطريقة التي عرض بها هذه المؤشرات، والنبرة المرتفعة التي رافقت حديثه، أوحت للمشاهد بأن فيصل القاسم لم يكن في موقع المحاور المتجرد، بل موقع الشاهد المنحاز، وربما موقع الطرف الذي يسعى لتوجيه مسار النقاش إلى مساحة بعينها. وهكذا تراجعت طبيعة البرنامج من جدلٍ متوازن إلى ساحةٍ يتحرك فيها الصوتان بقدرين غير متكافئين من الحرية:
صوتٌ يُسمح له بالتحليق، وآخر تُقصقص جناحاه كلما حاول أن يرتفع!
إنّ النقد هنا لا يستهدف الضيوف، ولا الرؤى المختلفة التي حملها كل منهما، ولا الموضوع الجوهري المتعلق بالتحوّل السياسي في سوريا بعد عام من انعطافها الكبير؛ بل يذهب إلى تلك اللحظة الإعلامية نفسها، إلى انحراف ميزان العدالة في حوارٍ يُفترض به أن يكون حيّزًا للوعي، لا مساحة لتغليبه.
فالإعلام، حين يميل، لا يميل وحده. يميل معه وعي الناس، وتميل معه صورتهم عن الحقيقة، وتميل معه الثقة بما يسمونه "الحوار".
وبهذا، ترك فيصل القاسم في أذهان المشاهدين سؤالًا معلّقًا، سؤالًا ربما كان بصوته أكثر من كونه بصوت ضيوفه: هل أراد أن يدير حوارًا… أم أراد أن يثير شغبًا إضافيًا في ساحةٍ لم تعد تحتمل المزيد من الضجيج؟


