منذ اللحظة التي دخلت فيها أميركا بغداد عام 2003، لم يبدأ العراق رحلة ديمقراطية حقيقية بقدر ما دخل في انتقالٍ طويل من دولة ذات طابع دكتاتوري إلى دولة سياسية أحادية القرار مركزية الفكر، تُعاكس الصيغة الاتحادية التي شُكِّل النظام الجديد على أساسها. وهكذا تحوّل هذا النظام إلى شجرة تُشبه شجرة الخطيئة التي أكل منها آدم؛ مُغرية في ظاهرها، لكنها تحمل في داخلها بذور الخراب.
فالديمقراطية التي وُعِدَ بها العراقيون لم تكن سوى واجهة ضخمة لصفقات صغيرة، وفضاءً سياسيًا تُدار فيه الدولة بمنطق الغنيمة، لا بمنطق العقد الاجتماعي. الحقيقة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي أن الأحزاب العراقية، الدينية والقومية على حد سواء، لم تتعامل مع الدولة العراقية الحديثة ككيان وطني، بل كإقطاعية مُوزعة على جماعات. وهذا ليس تحليلًا إنشائيًا؛ فالأرقام تُعكسه بوضوح: أكثر من 72 بالمئة من المناصب العليا والدرجات الخاصة خضعت لتوزيع حزبي مباشر (تقرير رسمي لهيئة النزاهة 2021)، فيما تم تثبيت أكثر من 130 ألف موظف وفق نظام الولاء الحزبي لا وفق الحاجة المؤسسية (لجنة التخطيط النيابية 2018). هذه بنية لا تُنتج دولة، بل تُنتج ماكينة بقاء سياسي تُعيد تدوير نفسها من انتخابات إلى أخرى.
الدستور نفسه، الذي كان يُفترض أن يكون حجر الأساس، تحوّل إلى وثيقة مُفرَّغة من محتواها. فالمواد التي تتحدث عن حقوق المواطنين والمساواة أمام القانون والمركزية الوطنية تُرِكَت مُعلّقة، بينما المواد القابلة للتأويل الطائفي أو التي تخدم مراكز النفوذ جرى تفعيلها بقوة. حتى المحكمة الاتحادية، التي يجب أن تكون الحارس الأعلى للدستور، بقيت لعقد ونصف تعمل بقانون غير مكتمل لأنها تُشكّل خطرًا على الأحزاب لو كانت مستقلة بالكامل. وهذا الواقع لم يتغيّر إلا بتعديلات متأخرة جاءت تحت ضغط سياسي وليس تحت ضغط وطني. التسوية السياسية التي بُني عليها النظام، تسوية المحاصصة، لم تكن تسوية وطنية، بل تسوية خوف: خوف المكوّنات من بعضها، وخوف الأحزاب من خسارة نفوذها، وخوف الدولة من انهيارها. وهكذا أصبحت العراق ديمقراطية ورقية: كل شيء فيها يُشبه الديمقراطية صندوق، انتخابات، برلمان، لكن لا شيء فيها يعمل بروح الديمقراطية.
ولذلك، لم يكن مفاجئًا أن تنخفض نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة إلى 41 بالمئة وفق المفوضية، وهي أدنى نسبة منذ 2005. الناس لم تمتنع لأنها لا تؤمن بالديمقراطية، بل لأنها لم تعد تؤمن بالطبقة السياسية التي صادرت الديمقراطية.
أما الفساد، فقد أصبح شجرة أخرى مُتفرعة من الشجرة الكبرى. فوفق تقارير وزارة المالية ولجنة النزاهة، ضاع من العراق منذ 2004 وحتى اليوم أكثر من 350 مليار دولار من الأموال العامة عبر شبكات فساد حزبية، رقم تستطيع به دولة مثل النرويج أو الإمارات بناء بنى تحتية كاملة من الصفر. وليس هذا وحده، فالعراق اليوم يحتل مراتب متأخرة عالميًا في مؤشرات الفساد (المرتبة 154 عالميًا في مؤشر الشفافية الدولية لعام 2023)، وهو دليل ليس على الفساد فقط، بل على عجز النظام عن إصلاح نفسه.
الديمقراطية حين تفقد روحها تتحول إلى طقس شكلي، والدستور حين يفقد هيبته يتحول إلى أوراق مبعثرة، والدولة حين تفقد استقلالها تتكئ على الميليشيات والأحزاب بدل المؤسسات. لذلك، بقي العراق دولة نصف مستقلة سياسيًا، نصف مخطوفة اقتصاديًا، ونصف عاجزة عن حماية وحدة مواطنيها. وحتى مفهوم الهوية الوطنية تراجع أمام هويات فرعية؛ فالمواطن صار يُعرّف نفسه في كثير من الأحيان عبر طائفته أو قوميته أو منطقته قبل أن يقول أنا عراقي.
لكن الخطر الأكبر ليس المحاصصة ولا الفساد، بل تحوّل العراق إلى ساحة صراع نفوذ إقليمي ودولي. وقد وثّقت تقارير متعددة، من الأمم المتحدة إلى دراسات معهد واشنطن ومعهد كارنيغي، أن القرار السياسي العراقي في كثير من اللحظات الحاسمة كان مرتهنًا لتوازن القوة بين واشنطن وطهران، لا لتوازن مصالح العراقيين.
وهذا الارتهان لم يكن مجانيًا؛ فقد كلّف العراق دورتين انتخابيتين مشلولتين، وولادة حكومات متعثرة، وغياب قرارات استراتيجية في الاقتصاد والطاقة والأمن، إضافة إلى تعطّل علاقته مع إقليم كردستان الذي يعيش منذ سنوات صراعًا ماليًا وقانونيًا مع المركز بسبب تفسير سياسي لا دستوري للمادة 140 ومواد النفط والغاز.
واليوم، وبعد عشرين عامًا على التجربة، يقف العراق أمام السؤال الأصعب: هل يمكن تصحيح مسار شجرة الخطيئة دون اقتلاع جذورها؟
الحقيقة أن الترقيع لم يعد ينفع، والإصلاح التجميلي أصبح مضيعة وقت. فلا ديمقراطية حقيقية في ظل ميليشيات موازية، ولا دولة حديثة في ظل اقتصاد يستنزفه الفساد، ولا مواطنة متساوية في ظل دستور يُفسَّر حسب رغبات السلطة، ولا انتخابات نزيهة في ظل ماكينة حزبية تُشرف على كل شيء من التسجيل إلى العد.
العراق يحتاج مشروعًا يُعيد تعريف الدولة نفسها: دولة تُبنى على المركزية الدستورية، لا على المحاصصة؛ على الاحتراف، لا على الولاء؛ على استقلال القضاء، لا على ضغط الأحزاب؛ دولة تُعيد الاعتبار لمفهوم العراقي أولًا، وتُعيد قراءة الدستور بروح وعي جديد لا بروح صفقات قديمة.
وعندها فقط يمكن لهذه البلاد أن تكسر حلقة الخطيئة، وتقطع الشجرة التي ظلت تُظلل حياتها السياسية منذ 2003.
أما ما لم يتغير شيء، فستبقى الديمقراطية مجرد قشرة، والدستور مجرد كتاب، والدولة مجرد فكرة تبحث عن من يحميها.


