: آخر تحديث

من القرى إلى العروش: صعود صدام والقذافي نحو السلطة المطلقة

2
1
3

لم يكن صعود صدام حسين ومعمر القذافي إلى قمة السلطة حدثًا عابرًا في تاريخ المنطقة، بل كان انعكاسًا لمرحلة تَحوّلت فيها الدولة إلى ظل لرجل واحد. من العوجة العراقية إلى صحراء سرت الليبية، صعد رجلان من الهامش الاجتماعي نحو قمة الحكم، كلٌ منهما يحمل روايته الخاصة، لكنهما التقيا عند فكرة واحدة: القائد هو الدولة، والدولة يجب أن تتجسد في القائد وحده.

وُلد صدام حسين عام 1937 في قرية العوجة ببيئة قاسية سمتها الفقر وغياب الأب، فصنعت فيه ميلًا حادًا للسلطة. انضم مبكرًا لحزب البعث، متنقلًا بين دمشق والقاهرة، حتى شارك في انقلاب 1968 ووصل تدريجيًا إلى مركز القرار. وعندما أصبح رئيسًا للجمهورية عام 1979، صبغ الدولة بإيقاعه الخاص؛ الأمن أصبح ذراعًا للحزب، والحزب ذراعًا له، والجيش أداة لإرادته، بينما تحوّل الإعلام إلى مرآة لصورته. في فلسفته، كان العراق مشروعًا قوميًا يقوده هو، وكانت الحروب جزءًا من هذا المشروع، حتى لو دفعت البلاد أثمانًا باهظة لم تُبنَ معها مؤسسات راسخة أو تنمية حقيقية.

على الجانب الآخر، ظهر معمر القذافي القادم من خيمة بدوية في سرت عام 1942، محمّلًا بروح ثورية غذّتها هزيمة 1967. وعندما قاد انقلاب الأول من أيلول (سبتمبر) 1969، أعلن نظامًا يقوم على "سلطة الشعب"، إلا أن السلطة بقيت في قبضته وحده. تحولت الوزارات إلى لجان شعبية شكلية، والكتاب الأخضر إلى دستور فعلي، بينما بقيت القرارات الكبرى في يد قائد يرى نفسه صاحب مشروع عابر للحدود، لا مجرد رئيس دولة نفطية.

تشابه الرجلان في رؤيتهما للدولة كإطار شخصي، لا منظومة مؤسسات. صدام خلق دولة مبنية على أجهزة أمنية متشابكة تحمي القائد قبل أن تحمي البلاد، بينما صنع القذافي نموذجًا ثوريًا بلا مؤسسات فعلية، تُدار قراراته من خارج أي هياكل رسمية. وبين بغداد وطرابلس، ظهرت ملامح حكم فردي يعتبر الثروة والسلطة أدوات للمغامرات الخارجية أكثر من كونها موارد لبناء دولة.

هذا التشابه لم يمنع نشوء عداء مكتوم بينهما. يوضح السفير العراقي الأسبق في ليبيا، علي سبتي الحديثي، أن جذور الخلاف تعود إلى صراع النفوذ بين الناصرية والبعث. فقد حاولت الوفود العراقية التي أرسلت لليبيا في السبعينيات التأثير على النظام الجديد وتقديم نموذج البعث، لكن القذافي رفض التماهي مع هذا النهج، وهو ما زرع بذرة خصومة امتدت لسنوات. وفي الحرب العراقية الإيرانية، تبادل الطرفان رسائل مليئة بالتوتر، أبرزها برقية القذافي التي وصف فيها الحرب بأنها عبثية وأن قتلاها "في النار"، ما اعتبره صدام تحديًا شخصيًا.

أما وزير الخارجية الليبي الأسبق عبد الرحمن شلقم، فيصف العلاقة بأنها مزيج من الكراهية والبراغماتية؛ القذافي كان يرى صدام منافسًا لا شريكًا، لكنه قدم له دعمًا رمزيًا تحت الحصار، في إطار لعبة المصالح لا التحالف الحقيقي. وبالمقابل، دعم صدام معارضي القذافي بالسلاح، بينما دعم القذافي معارضين بعثيين وأكرادًا عراقيين، ما جعل العلاقات بين البلدين سلسلة متواصلة من التوتر والمساومات.

حتى عندما سقط نظام صدام عام 2003، بقيت ليبيا محطة لجوء لبعض أفراد عائلته، في خطوة تعكس التناقض ذاته: عداء سياسي طويل، يقابله احتضان إنساني رمزي في اللحظة الأخيرة. وفي ليبيا، عندما انفجرت ثورة 2011، انتهى القذافي بالمصير نفسه، لكن بعد سنوات من حكم الفرد الذي أفرغ الدولة من مؤسساتها الحقيقية.

كانت النهاية واحدة: سقوط القائد كشف هشاشة الدولة. في العراق، دفع المجتمع ثمن غياب المؤسسات بعد رحيل صدام، وفي ليبيا تفككت الدولة سريعًا بعد موت القذافي. لم تصمد أي من الدولتين أمام انهيار الحاكم، لأن البناء كان يدور حول شخص واحد، لا منظومة قادرة على الاستمرار.

تجربة صدام والقذافي ليست مجرد قصة دكتاتورين، بل فصل كامل من التاريخ العربي يؤكد أن السلطة الفردية مهما بدت قوية، تبقى هشّة أمام أول اهتزاز حقيقي. تلك الأنظمة التي ملأت المشهد صخبًا وصورًا وشعارات، تركت وراءها فراغًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا لا يزال حاضرًا حتى اليوم. إنها دروس قاسية لحقبة ما زالت المنطقة تدفع ثمنها، وتذكير بأن الدولة التي تختزل في القائد، تسقط بسقوطه دائمًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.