: آخر تحديث

الحرب السودانية ونظرية "صيد الإيل"

6
4
5

لم يكن اندلاع الحرب في السودان عام 2023 حدثًا مفاجئًا بقدر ما كان انفجارًا متوقعًا لمسار طويل من التفاعلات السياسية والاجتماعية التي راكمت هشاشة الدولة السودانية عبر عقود. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، عاش السودان في ظل منظومات حكم متعاقبة اعتمدت على المحاصصة والولاءات العسكرية والإثنية، ما أدّى إلى إضعاف مؤسسات الدولة مقابل تضخّم نفوذ الفاعلين المسلّحين، كما أنّ تفكك النسيج الاجتماعي، وغياب مشروع وطني جامع، واشتداد المنافسة على الموارد والنفوذ بين مراكز القوة، شكّلت جميعها بيئة خصبة لانزلاق البلد إلى صراع مفتوح.

واليوم يعيش السودان واحدة من أكثر لحظاته التاريخية تعقيدًا منذ استقلاله، مع استمرار الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إذ تبدو البلاد وكأنها عالقة في حلقة مفرغة من الصراع على السلطة، حيث تتآكل الدولة لصالح ميليشيات، وتتفتت الجغرافيا لصالح أمراء حرب، ويتقلص الأفق السياسي لحلول مستدامة.

ولفهم منطق هذا الانزلاق المستمر نحو الحرب، يمكن الاستعانة بأطر تحليلية تساعد على تفسير سلوك الفاعلين عندما تنهار الثقة وتتراجع المؤسسات، ومن أبرزها نظريات الألعاب ومنها نظرية "صيد الإيل"، التي طوّرها جان جاك روسو، وتبنّاها من بعده منظّرون معاصرون كُثر لشرح ديناميات التعاون والصراع في الأنظمة السياسية الهشة كالنظام القائم في السودان حاليًا.

تحكي نظرية "صيد الإيل" قصة صيادين يمكنهم العمل معًا لصيد الإيل وهو صيد كبير لا يتحقق إلا بالتعاون والثقة بين الصيادين، أو أن يختار كل صياد منهم مطاردة أرنب صغير يضمن له ربحًا سريعًا على حساب المكاسب الأكبر المشتركة.

وبالتالي، تصوّر هذه النظرية معضلة بسيطة وهي: يستطيع الصيادون التعاون مع بعضهم لصيد الإيل وهو الخيار الأفضل للجميع كونه يخلق مكاسب أكبر للجميع لكنه يحتاج إلى ثقة متبادلة وضمانات، أو يستطيع كل صياد الانسحاب لصيد الأرنب وهو خيار أقل ربحًا وقصير المدى ويدمر المصلحة الجماعية.

في الحالة السودانية، يظهر اللاعبون المحليون والإقليميون والدوليون كأنّهم أسرى لهذا المنطق، فالجيش السوداني الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، والذي يسعى للحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية وبسط السيطرة على الدولة، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي يبحث عن اعتراف سياسي وواقع جديد يمنحه شراكة قسرية في السلطة أو الانفصال في الغرب، كان يمكن لهما أن يتعاونا لبناء نموذج انتقال سياسي مستقر بعد سقوط نظام عمر البشير، لكن انعدام الثقة بين الطرفين وتضارب مصالح الشبكات الاقتصادية داخل المؤسستين دفعهما إلى خيار الأرنب بدل الإيل، وهكذا بدا أن الطرفين يفضلان القتال على المغامرة بتسليم السلطة لعملية سياسية قد تقلص نفوذهما.

وما ينطبق على اللاعبون المحليون ينطبق أيضًا على الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين يتحركون وفق حسابات الربح السريع، بحيث يبحث كل لاعب عن أرنبه الخاص بدل الاستثمار في الإيل الكبير الذي يمثل دولة سودانية مستقرة وقادرة.

وبالتالي، فإنّ تردد كل طرف في التعاون خوفًا من أن يستغل الطرف الآخر هذا التعاون لتعزيز نفوذه، جعل العلاقة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نموذجًا عمليًا للوقوع في خيار الأرنب، إذ دفع انعدام الثقة وتضارب مصالح الشبكات الاقتصادية داخل المؤسستين الطرفين إلى تفضيل القتال على المغامرة بعملية سياسية قد تقلل من قوتهما أو تحد من امتيازاتهما، وهو ما جعل فرص بناء انتقال سياسي مستقر تتبدّد سريعًا بعد سقوط نظام البشير.

وما ينطبق على اللاعبين المحليين يسري أيضًا على الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين يتحرك كل منهم وفق حسابات الربح السريع. إذ يسعى كل طرف إلى أرنبه الخاص، سواء كان نفوذاً سياسيًا أو موطئ قدم أمني أو مكسبًا اقتصاديًا أو اعترافًا دوليًا، بدل الاستثمار في الإيل الأكبر المتمثل في قيام دولة سودانية مستقرة وقادرة. وقد أسهم هذا السلوك في إنتاج توازن سلبي تتجنب فيه القوى الإقليمية مواجهة مباشرة، لكنها في الوقت ذاته لا تبذل جهدًا كافيًا لوقف الحرب، ما أدى إلى اتساع دائرة الفوضى، وتآكل مؤسسات الدولة، وتهجير الملايين، وتعاظم اقتصاد الحرب.

ختامًا يمكن القول إنّ النموذج التحليلي لصيد الإيل يقدم نموذجًا واضحًا لفهم مأزق السودان، الذي يعيش لحظة مفصلية، فإما أن يواصل الأطراف مطاردة الأرانب الصغيرة التي تجلب لهم مكاسب ضيقة ومؤقتة، أو أن يدركوا أن الدولة السودانية نفسها باتت مهددة بالزوال، وبالتالي إمّا أن تتجاوز الأطراف جميعها مخاوفها وتتجه إلى تعاون صعب لكنه ممكن، أو أن يستمر الجميع في سياسة صيد الأرنب التي تقود نحو مزيد من التفكك والدم والانهيار وربما ولادة سودان جديد لكن بلا دولة. وفي مقابل هذا المسار الانتحاري، لا يبقى الخروج ممكنًا إلا عبر تسوية شاملة تمنح جميع الأطراف ضمانات حقيقية وتتيح بناء مؤسسات قادرة على استعادة الثقة، بما ينقل السودان من لعبة مطاردة الأرانب الصغيرة إلى السعي نحو الإيل الكبير.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.