: آخر تحديث

الكاريزما.. هل تُورث؟

5
4
5

الكاريزما... ذلك الضوءُ الذي لا يُرى، لكنه يُحسّ،

وذلك الحضور الذي يسبق صاحبه كما يسبق العطرُ الجسد.

فيولد بعضُ الناس وكأن في ملامحهم وعدًا بالاهتمام،

وفي أصواتهم شيءٌ من الطمأنينة،

وفي تصرفاتهم ما يشبه الإقناع بلا كلمات.

لكن… هل تُورث الكاريزما؟

بالتأكيد ليس بالضرورة.

فالهالة التي تلتف حول بعض الوجوه ليست جينية تمامًا،

بل هي تربيةُ روحٍ قبل أن تكون إرثَ دم،

وهي حصيلةُ مواقف، وذكاءٌ في التوقيت،

وحسٌّ عاطفيّ يلتقط ما لا يُقال.

فالكاريزما ليست في العينين اللتين تلمعان،

ولا في نغمة الصوت أو اتساع الابتسامة،

بل في الصدق الذي يسكنها جميعًا.

وهي القدرة على أن تكون حاضرًا بكلّك،

وبأن تجعل الآخر يشعر بك، لا يسمعك فحسب.

والغريب أن الكاريزما

لا تُعلَّم كما تُعلَّم المهارات،

ولا تُحفظ كما تُحفظ النصوص،

إنها حالةُ صدقٍ دائمة مع الذات،

ومسؤوليةُ روحٍ تعرف متى تصمت

ومتى تقول الكلمة التي تُشبه الزمن.

وهي أن تمنح اهتمامك للآخر

دون أن تشعره بأنك تتفضّل عليه،

وأن تُصغي بعينيك قبل أذنيك،

فبعض الإصغاء

يضاهي ألف خطاب.

وربما تولد البذرة،

لكنها لن تُثمر إلا إذا سُقيت بالتجربة،

وصُقلت بالوعي،

ونضجت بالتواضع.

فكم من شخصٍ ورث الجمال والهيبة،

ولم يورّث قلبه أثرًا في أحد،

وكم من آخرٍ بسيط المظهر،

لكن حضوره يملأ المكان دفئًا،

كأنه حديثٌ مع النفس لا مع الناس.

والكاريزما أيضًا

شجاعةُ أن تكون طبيعيًا

في عالمٍ يتجمّل بالخداع،

وأن تختار البساطة

حين يتسابق الجميع نحو الادّعاء.

فليس كل من لفت الأنظار كاريزما،

ولا كل من أثار الضجيج حاضرًا،

فالحضور الحقيقي

يمرّ بهدوء…

ويترك أثره طويلًا بعد أن يغيب.

وقد ترث الاسم والمكانة،

لكن لا أحد يورّثك قبول القلوب،

فذاك يُصنع

حين تُعامل الإنسان كقيمة

لا كوسيلة.

فالكاريزما إذًا

ليست هبة الجينات،

بل فنّ أن تكون نفسك

في زمنٍ يكثر فيه الممثلون.

ولأنها تُشبه الضوء أكثر من الدم،

فهي لا تُورَّث بقدر ما تُكتَشف،

وتظهر حين يتصالح الإنسان مع ذاته،

وحين يتحدث بعفويةٍ لا تُتقنها الأقنعة.

إنها أثرُ الصدق في الملامح،

ورائحةُ الثقة في الكلمات،

وسحرُ الإنسانية

حين تتجلّى بلا تكلّف ولا تصنّع.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى

بأن الكاريزما لا تبحث عن جمهور،

لكن الجمهور يبحث عنها.

فهي لا تطرق الأبواب،

بل تُفتح لها النوافذ من تلقاء نفسها.

فإن سألت يومًا هل أملك كاريزما؟

لا تنظر في المرآة…

انظر في القلوب التي هدأت أو ابتسمت

حين مررت بها.

فهناك فقط

تُعرف الكاريزما،

وهناك وحده

يتأكد أنها لا تُورث..بل تُعاش.

ولهذا ربما ليس السؤال الحقيقي

هل تُورث الكاريزما؟

بل هل تجرؤ أن تعيشها؟

بأن تحضر بلا أقنعة،

وأن تمشي خفيفًا على قلوب الآخرين،

وأن تترك خلفك أثرًا يشبهك لا يشبه الصورة التي حاولت تسويقها.

فالكاريزما امتحان أخلاقي قبل أن تكون وهجًا اجتماعيًا،

واختبار صدق قبل أن تكون موهبة،

وهي ثمنٌ يُدفع من العمق

لا شهادة تُعلّق على الجدران.

وإذا كان الإرث الحقيقي

هو ما يبقى بعد أن نغيب،

فالكاريزما لا تُسلَّم في صكوك،

بل تُكتب سطورها

في ذاكرة من قابلتهم بإنسانيتك.

عندها فقط،

وحين يُذكر اسمك

فتُذكر الراحة قبله،

والطمأنينة بعده،

تعرف أن الكاريزما

لم تكن يومًا شيئًا تُورّث

بل حياةً عشتها بصدق،

فورثك بها الآخرون شعورًا لا يُنسى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.