لم يعد الكذب الإعلامي مجرد سلوك عابر في فضاءات الأنظمة الشمولية، بل أصبح مؤسسة قائمة بذاتها، تُدار بعناية، وتُرفد بعقول مدربة على التضليل. وإذا كانت بعض القنوات قد تزعمت زمناً عرش الكذب، فإن أخرى جاءت لتزيحها، لا بفضيلة المهنية أو الصدق أو البديل المطلوب، بل بمزيد من خبث و براعة التزييف، حتى غدت منصة لشرعنة الحقد، وتهيئة العقول لتقبّل خطاب الإقصاء، ومن ثم القتل والتدمير والاغتصاب والسطو.
وحقيقة، لم يعد المشهد الإعلامي - ضمن هذا التوصيف - محصوراً في صياغة خبر أو تزيين تقرير، بل تعداه إلى صياغة وعي كامل، يُبنى من خلال ضيوف مدججين بالكراهية، يتم اختيارهم بعناية كي يمثلوا دورهم الببغاوي، المتفق عليه، ضمناً، أو استجابة لطلب أو رؤية محددة، في لعبة التضليل. يتحدثون بلغة واحدة، بنبرة واحدة، وبعقلية واحدة، كأنهم جوقة مظلمة. وهنا - تماماً - تتجلى الحقيقة: باعتبار أنَّ المسألة ليست إعلاماً بل أداة سلطوية لتكريس الظلام، ما يحول مهمة الإعلامي إلى مجرد" إظلامي" أو" إعتامي"، مجرَدين من الضمير و القيم والأخلاق!
وها هو الكردي، يُستدعى، في قلب هذا المشهد الزوبعي والغباري أو العاصف، المتلاطم، لا ليُسمع صوته، بل ليُستخدم كديكور لتزيين عرض كراهية معد مسبقاً. إذ يكفي أن ينطق بما يلامس الحق، حتى يُقاطع المذيع متوعداً: "هذه آخر مرة لك"، وهو يشير بسهام نظراته بدلاً عن إصبعه نحوه، وكأنه يكاد أن يقول له: "أولاك" اعرف مع من تحكي!. إنها لحظة صادمة، تكشف حدود ما يسمى حرية رأي، وتفضح أنَّ الضيف غير مرغوب فيه إلا بوصفه هدفاً لإسكات آخر، بل إنَّ كلا الضيفين غير مرغوب بهما إلا بقدر ما يراد من خدمات يقدمانها لقاء استدعائهما، ليكون الضيف - موالياً أم معارضاً يقدم في صورة مسيئة - محض أداة لتأكيد احتكار الصوت الواحد. ولعل السؤال الذي يفرض ذاته، هنا، هو:
هل كان سيُطرد هذا الضيف على الهواء؟ أم أنه مهدد بأن يُسلَّم إلى "الشباب وراء الباب" كما لو كان المشهد مسرحية في مخفر للشرطة، لا برنامجاً إعلامياً؟
ومن المفارقات الفاجعة أنَّ بعض الضيوف الإعلاميين بشكل خاص، وغيرهم ممن يُستحضرون إلى تلك الطاولات، لا يكتفون بخطاب الكراهية، بل يسيل لعابهم وهم يتحدثون عن الكرد تحديداً - ومنهم من كان حتى الأمس ممالقاً للكرد الأصدقاء أو الجيران - كأنهم على الدور بانتظار حصتهم من أملاك هؤلاء الكرد ونسائهم ودمائهم. إذ يتحول النقاش إلى سوق ابتزاز وتدليس وغزو مؤجلين، يُدار ببرودة أعصاب أمام الشاشات، بينما يفضح الوميض في عيونهم توقاً إلى اغتصاب حياة الآخر ومحو وجوده. إنهم لا يناقشون قضية، بل يفاوضون على غنيمة.
كما أنه لطالما رُوّجت - عبر هذا الإعلام ومن وراءه - أكذوبة أنَّ "الأطراف كلها ارتكبت الانتهاكات"، في محاولة لتجميل وتبرئة الإرهاب، وتذويب الفارق بين من كان في بيته يحمي أطفاله، ومن اقتحم البيت وقتل واغتصب ونهب ودمّر، بل وصوّر جرائمه كأنها بطولة. في عفرين وسري كانيي وتل أبيض عام 2018، كما في الساحل والسويداء، لم يكن المشهد التباساً بل وضوحاً: هناك معتدٍ وهناك ضحية. هناك طرفان فحسب: إرهابي، مجرم، قاتل، سارق، وضحية. ومع ذلك يُقال: "الأطراف كلها مدانة"، لتغدو الضحية - زوراً - شريكاً في الجريمة التي ارتُكبت بحقها. والحقيقة أنَّ السلطة من رأسها حتى أخمص قدميها هي من ورّطت البلاد، وهي من فتحت الأبواب أمام استدعاء هذا الخراب.
ثم جاء الإعلام الجديد ليضاعف الأكاذيب تحت لافتة "النصر"، "وأي نصر؟". منهم من ادّعى: "نحن صنعنا النصر لا غيرنا" أي ليس المجاهدون "المرتزقة"، فيما الحقيقة أنَّ لا هؤلاء ولا أولئك من أسقطوا النظام، بل إن دماء السوريين من درعا إلى قامشلي، حتى عين ديوار، هي التي كانت وراء كل ما جرى، وفق ترتيب ومخطط دولي، لا شأن لسلطة دمشق وفصائلها وإعلامييها بالأمر. لكن منجز الإعلام الجديد أنّه رفع عدد الشهداء إلى مليون ونصف المليون شهيد. ترى على أية إحصاءات اعتمد؟ ومن هم هؤلاء الذين قدّمهم أرقاماً؟ بينهم كرد وعلويون ودروز ومسيحيون، وغيرهم من كل المكونات، قضوا في مظاهرات، أو تحت التعذيب، أو في التفجيرات، أو وهم يدافعون عن رؤاهم أو بيوتهم بصدورهم العارية. هؤلاء هم الذين يستحقون القداسة، لا أولئك الذين دخلوا على خط القتل لتنفيذ أجندات الممولين، أو ليمارسوا الموت كوظيفة مدفوعة.
أمَّا إعلام السلطة المؤقتة فقد لعب دورين متناقضين متكاملين: إذ قدم من جهة فلول الجهاديين في ثوب الأبطال وشرعن وجودهم، ومن جهة أخرى عمل على تنفير الناس منهم عبر التوسع في استخدام مصطلح "السنة" خارج دلالاته الدينية والاجتماعية، حتى غدا علامة على التخويف. وهكذا شُوّهت صورة السنة قبل غيرهم، عبر من ادّعوا تمثيلهم، وهم في الحقيقة يسيئون إليهم أكثر مما يعاديهم الآخرون. لقد غاصت في مستنقع هذه الثقافة أقدام وأقلام كان يُعوَّل عليها إبداعياً وأخلاقياً، وها هي اليوم تعيد النظر فيما آلت إليه الأمور، بعد أن اكتشفت أنها كانت تسهم في تكريس الخراب بدل مقاومته.
حرية الرأي، كما يفترض أن تكون، لا تعني منح المنابر لصانعي الخراب الفكري، بل تستلزم مسؤولية مضاعفة في ضبط خطاب الكراهية. ومن واجب أي سلطة مسؤولة أن تضع حداً لهذه الجوقة الظلامية التي تتغذى على إهانة الآخر، وتعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي عبر تحريض مسعور، يضع مكوناً في مواجهة آخر، ويحوّل التنوع إلى ساحة تصادم لا لقاء، إذ وصلت درجة تفكك المكونات إلى حدود عدم الالتقاء، نتيجة سياسات السلطة المؤقتة وإعلامها وبطانتها، بعد أن توحد السوريون، من جديد، مع سقوط نظام الطاغية الأسد.
إنَّ تكريس خطاب الإقصاء ليس خطراً عابراً، بل مشروعاً منظماً يرمي إلى تقويض فكرة العيش المشترك. ما يقال في تلك المنابر ليس رأياً، بل إعلان حرب ناعمة على الكرد، وعلى كل مكوّن يُراد إسكاته أو إذابته في هوية قسرية. وهنا يصبح الصمت تواطؤاً، والحياد جريمة.
وهنا، فإنه لا يمكن لمجتمع أن ينهض تحت سطوة الإعتاميين، لأنهم يقمعون الحقيقة في مهدها، ويحاصرون كل ضوء يحاول التسلل. لذلك، فإن أي مشروع للخلاص، يبدأ من مواجهة هذا التزييف الإعلامي، ورفض شرعنته، والعمل على فضحه بوصفه وجهاً آخر" قبيحاً" للعنف، لا يقل خطراً عن الرصاص.
إنَّ معركة الوعي أخطر من معركة السلاح، ومن يسيطر على المنبر يملك القدرة على رسم صورة العدو في ذهن الناس، وعلى تحديد من يستحق الحياة ومن يُقصى. وهنا تكمن المأساة: الإعلام يتحول إلى منصة للكراهية، بدل أن يكون جسراً للتلاقي.