: آخر تحديث

‏الكنبة: إمبراطورية الإبداع

10
10
6

‏دعتني الصديقة العزيزة الدكتورة إيمان نجم، وكيلة وزارة الثقافة، ورئيسة قطاع العلاقات الثقافية الخارجية في وزارة الثقافة المصرية، لحضور ندوة تتناول الأديب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ الذي تعرف أعجابي به وبمؤلفاته منذ الصغر حيث كان يسكن في نفس العمارة رقم  172 شارع النيل بالعجوزة  التي كنت أسكن فيها مع عائلتي خلال دراستي في القاهرة في منتصف الخمسينيات الميلادية في السنوات الأولي من دراستى الإبتدائية في فيكتوريا كوليج (كلية فيكتوريا) بالمعادي.

تساءلت د. إيمان: لماذا لا تحضر معنا هذه المناسبات الثقافية، خاصة وان ندوة اليوم هي لمناقشة رواية الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ في دار الأوبرا، المجلس الأعلى للثقافة/ الذي أعرف عشقك له؟
أجبتها بأن جزءا من وجودي في القاهرة يا صديقتي هو الإبتعاد عن المناسبات والقبوع في المنزل فوق كنبتي المريحة.. أنا اليوم من "اصحاب الكنبة"، وانتظري مني مقال في هذا الموضوع.

المقدمة: من الذات وإلى الذات
‏"بينما كانت القاعات تضجّ بالندوات، وأصدقائي يتهافتون على المناصب، كنتُ أتراجع خطوةً إلى الوراء. نحو كنبتي البالية. تلك التي تحتضنني كشجرةٍ عتيقة، تمنح ظلّها لكاتبٍ اختار أن يُنصت لصوت حبره قبل أصوات التكبيرات الاجتماعية.
‏في عالمٍ يقدّس الزحام، صمّمتُ على أن أكون"ناسك العصر الحديث": أقدس الوحدة، وأعشق الصمت، وأتفرغ للكتابة فيكون مكتبي الصغير منطلقًا للنشاط، و"كنبتي" متكأ للراحة في مذبح العزلة الاختيارية".
‏وهكذا يكون: الجسد على الكنبة.. والروح في الكون، فأنا لا أنظر إلى العزلة على أنها انطواءً، بل "انبثاقًا"!

خلال فترة تقاعدي، وعلى هذه الكنبة (التي صارت جغرافيتي الوحيدة)، كتبتُ كثيرا من المقالات لا أستطيع أن أحصيها.
بين وساداتها، وُلدت أفكار كُتبي التي أطلقتها مؤخرا ... وأنا على أريكة التقاعد، وعرضت في معارض الكتب هنا وهناك.
في صمتها، سمعتُ نفسي للمرة الأولى... دون ضجيج النصائح الجاهزة: "يجب أن تظهر أكثر. تنشط.. تبرز!"
‏وعلى هذه المنوال  فإن الكنبة ليست أريكة.. بل منصة إطلاق. وقد جعلت القاهرة الصاخبة حولى مصنعا أطلق منه كلماتي إلى الفراغ ... و"يا صابت ، يا خابت".
‏إن في العزلة إبداعٌ، فيها تجد:
‏1- الحرية الكاملة: لا توقيتات مزعجة، لا مجاملات، لا أزياء رسمية.
‏2- الحضور الأعمق: الكتابة تحتاج إلى غياب عن العالم لتصبح حضورًا في الوجدان.
‏3- الثورة على التقاليد الاجتماعية: "لماذا يجب أن أحضر مناسبة لا أريدها فقط لأنها 'يجب'؟
‏وهكذا "أنا لستُ مضطرًا لشرح سبب رفضي للحفلات أكثر مما يشرح الآخرون سبب ذهابهم إليها!"

‏التقاعد.. ذلك الوهم الجميل!
‏"سألوني يومًا: ما رأيك في التقاعد؟
‏أجبتُ: "هؤلاء الذين ينتظرون التقاعد ليعيشوا.. لم يفهموا الحياة أصلًا!"
‏- أنا متقاعد منذ أن وطأت قدمي هذه الكنبة... لكنه تقاعدٌ عن كل ما لا يعنيني، وانشغالٌ بكل ما يهمّ روحي.
‏- التقاعد الحقيقي هو التفرغ للهواجس الجميلة ... وهو ما فعلته حين استبدلتُ قاعات الندوات بضجيج أفكاري".

الختام: رسالة إلى المنعزلين الطوعيين
‏"لن أعطيكم نصائح... فأنتم أدرى بكنباتكم.
‏لكنّي أقول: العزلة الاختيارية ليست هروبًا.. بل انتصارًا، طالما كنت ترفع سيف الحرية لمحاربة العوائق الفكرية التي تحيط بالمتقاعدين، وتُفرض عليهم أحيانًا، فيعيشوا في داخلها بلا حراك ... إنتظارا للنهاية.

‏العزلة هي:
‏- انتصارٌ على إملاءات المجتمع..
‏- على وَهْم "الضرورات الاجتماعية"..
‏- وعلى فكرة أن الوجود يجب أن يكون صاخبًا ليكون ذا معنى.
‏وهكذا أقول لكل متقاعد خرج من عباءة الوظيفة "استلقِ على كنبتك بفخر"... فالكون كله كان يومًا نقطةً صغيرة في عزلةٍ ما..
‏ثم انفجر إبداعًا!"


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.