حين يُذكر عيد الأم، لا تطرق ذهني الأهازيج ولا بطاقات التهاني، بل تتزاحم على شرفات الذاكرة صورٌ موغلة في الألم والدهشة، محفورة كالنقوش على جدران الروح، لا تمّحي، ولا تشيخ. أقدمها على الذاكرة، طيف امرأة عجوز التقيتها ذات صباحٍ في حديقة غنّاء بكولورادو، كنت يومها أرتشف من هدوء الطبيعة ما ينعش القلب ويبعث الطمأنينة، حتى بدا لي السكون شريكاً يَحثك أن تبحث له عن سامر.
رأيتها تجلس في ركنٍ قصي، كأنها امتداد للمشهد، تنثر حبّاً للعصافير التي تحوم من حولها كما لو أنها تعي نبل ما يُقدَّم لها. مشهدٌ إنسانيّ شفيف، اختصر في لحظاته عبقرية الشعور بالاحتياج والاحتواء، فاستحضر ذهني قول بشّار بن برد:
"يسقط الطير حيث يُنتثرُ الحبُّ، وتُغشى منازل الكرماء".
اقتربتُ منها وقد أسرني حضورها، فناولتني حفنة من الحب، تقاسمني بها سكينة المشاركة، وقالت وهي تراقب الطيور: "إنها تعرفني، وتحبني، وتنتظرني كل صباح".
قادتني الكلمات إلى سؤالٍ لم أُرد له أن يُوجِع، عن أبنائها، فكان جوابها بطيئاً، خافتاً كصوت ذاكرة تنزف:
"لي ثلاثة أبناء، لم أرهم منذ أعوام... ليسوا بعيدين، هم في المدينة، لكن لكلٍّ منهم شأنه وهمّه".
حاولت أن ألوذ بالصمت اتقاءً للشفقة، لكنها باغتتني:
"العصافير أجمل، لم أعد أشعر بالوحدة مذ تعرفت إليها، هي وفية، لا تتأخر، لا تنسى".
...
بعد أعوام، وفي برلين، وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع مشهد آخر ينهش الضمير. كنت أغادر الفندق فجراً، ومررت بالمطعم أبحث عن فطورٍ متعجّل، فرأيت خادماتٍ يُنظفن المكان، وقد أنهكتهن السنون. لفتتني إحداهن، تجاوزت السبعين من عمرها، والعمل ينضح من وجهها تعباً. سألتها، من باب الفضول الصحفي، عما يدفعها للعمل في هذا السن؟ فتنهدت وقالت: "لأني أعيش وحدي... أنفق على نفسي... أبنائي يقطنون المدينة، لكنهم منشغلون".
وعندما رأت دهشتي، تمادت في البوح: "نعم، هما ثريان، يعيشان هنا في أمستردام... لكن لم أرهما منذ سنين".
ثم أردفت بعد لحظة صمتٍ:
"أظنك عربيّاً... زرتمونا في شبابي، وكنتم تُجلّون الأم، وتحفظون لها قدسيتها".
سألتها عن زميلاتها، فابتسمت مرارةً وقالت: "جميعهن أمهات... وجميعنا منسيات".
...
في مدينة فيينا النمساوية، جمعتني مصادفة بأمٍّ مثقفة في السبعين من عمرها، تخوض نقاشاً حادّاً عن قسوة المجتمع على المرأة العربية. وحين أردت موازنة الحديث، قلت: "رغم كلّ شيء، فإنّ الأم العربية تحظى بقدر من التبجيل، لا يُقارن بما تؤول إليه الأمهات في الغرب".
صمتت لحظة، ثم قالت: "ابني يُحبني... يرسل لي بطاقة معايدة كل عام... وقد زارني منذ عامين".
سألتها: "وأين يسكن؟"
قالت بهدوء يُوجِع أكثر مما يعبّر: "في ذات الحي، هو جاري... لكنه مشغول بحياته، وأنا أقدّر ذلك".
...
تطفو على سطح الذاكرة حينها قصة تلك الأرملة المصرية التي هرعت إلى مكتب الكاتبين الكبيرين علي أمين ومصطفى أمين، تشكو جحود أبنائها الذين كبروا في حضنها يتامى، فإذا بهم، بعد أن اشتدّ ساعدهم، ينسحبون من ذاك الحضن كما ينسحب الضوء من مساءٍ شاحب.
من تلك الشكوى، وُلدت فكرة عيد الأم العربي، كما في الغرب الذي بادر إلى إقرار يومٍ للأم عام 1913، بعد أن بدأ الاحتفال به في أوكلاهوما عام 1910. لبّت مصر النداء عام 1956، وتبعتها الدول العربية، واختارت أول الربيع عيداً للأمهات. غير أن كثيراً من الكتّاب رفضوا أن يُختزل فضل الأم في يوم، وقالوا: "ينبغي أن نعيش عمرنا كله عيداً لها، فهي منبع الطمأنينة، ومرفأ الصفاء، وهي الرضا الذي لا يعادله إلا رضا الله نفسه".
...
الأم لا تحتاج إلى عيد، بل إلى ابنٍ يَطرق بابها، إلى نظرة امتنان، إلى عناق يُعيد لظهرها المستقيم وهج الحياة.
ويا ليت الأبناء يَعلمون أنّ في زوايا باردة من العالم، تقف أمهات يتحدثن إلى العصافير لأنهن أصدق من أبنائهن وعداً ووصالاً.