: آخر تحديث

إيران من التبجح إلى الترنح

12
13
7

ربما أستطيع القول إنها المرة الأولى التي يمكن فيها رؤية النظام الإيراني وأركان حكمه بهذا الشكل من الترنح في المواقف والتصريحات إلى حد الاضطراب، وفي بعض الأحيان التناقض.  

بعد الرفض المتكرر لفكرة التفاوض من طرف المرشد الأعلى علي خامنئي، وبعد ظهوره في مناسبة دينية في إحدى الحسينيات في طهران وقد وضع على الطاولة أمامه بندقية كلاشينكوف في تعبير عن التحدي، وبعد استعراضات الحرس الثوري لمدن الصواريخ تحت الأرض، يأتي تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأن إيران لا ترفض التفاوض في الملف النووي لأن هناك فتوى دينية تحرم الاستخدام العسكري لهذا البرنامج النووي. ثم تأتي تصريحات أخرى لوزير الخارجية عباس عراقجي بأن إيران مستعدة للتفاوض غير المباشر، وتصريحات أخرى لعلي لاريجاني وشمخاني مستشارَي المرشد تحمل نفس المضامين.

إنها المرة الأولى، بعد انتهاء الجولة الأولى من التفاوض في مسقط، التي نشاهد تصريحات محللين ومعلقين إيرانيين مقربين من مصدر القرار، يؤكدون بأنه لا موانع من استثمار الشركات الأميركية بمليارات وترليونات الدولارات في إيران.  

هذه لحظة فارقة، لم يمر بها نظام ولاية الفقيه بهذا الضعف والترنح تحت جدية ضغوط ترامب القصوى وتهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقصف المنشآت النووية الإيرانية وقواعد الصواريخ وجميع مفاصل هذه البرامج بقوة وتدميرها.  

بعد أن كان قاسم سليماني، قائد فيلق القدس السابق، يتبجح بهيمنته على أربع عواصم عربية، نجد إيران اليوم في حالة انكفاء وتنكر لحلفائها في محور المقاومة بعد غياب دور حزب الله اللبناني، وتدمير حركة حماس لنفسها ولقطاع غزة، وهروب بشار الأسد، وخسارة سوريا، مثلما نشاهد الضربات العنيفة التي توجهها أميركا للحوثي في اليمن، الذي لم نعد نسمع عنه سوى تصريحات يحيى سريع عن صواريخ مجنحة وأخرى مترنحة تسقط في اليمن وتطلق باتجاه حاملة الطائرات "يو إس إيزنهاور"، بينما هذه الحاملة تنطلق منها كل يوم الطائرات والصواريخ لتدك معاقل الحوثي في صنعاء وحجة وصعدة.

إذن، وبعد خفوت صوت الفصائل والحشد الشعبي العراقي وانكفائها، بقيت إيران وحيدة في دروب السياسة، وتبخر محورها بسرعة، تتنازعها مخاوف من انتهاء حلم القوة وامتلاك السلاح النووي وصواريخ فرط الصوتية التي تستطيع أن تدك قاعدة غارسيا في المحيط الهندي، وبين مخاوف من سقوط النظام، التي نقلها إلى المرشد ثلاثة من أكبر أركان نظام الحكم، بحسب وكالة رويترز.  

كنت قبل سنوات قد نشرت في صحيفة "إيلاف" الغراء مقالاً توقعت فيه أنَّ نظام ولاية الفقيه، بعيداً عن جعجعة الإعلام والتصريحات، سوف يقلّد نظام العقيد الراحل معمر القذافي في تفكيك برنامجه النووي ودفع أُجرة النقل.  

ولا زلت مقتنعاً بأنه، بعيداً عن سقف مطالب الحكم في المفاوضات، سوف يرضخ ويقبل بكل ما يُطلب منه مقابل عدم إسقاط نظام الحكم، لأن هذه القضية لديهم، بعيداً عن البروباغندا، هي قدس الأقداس.

صحيح أنه كما يُقال إنَّ الإيرانيين معلّمون في شراء الوقت وإطلاق الشعارات، لكنهم سوف يرضخون لأحكام الضرورات، ويظهرون بلبوس جديد ووجه أكثر نعومة أمام إدارة أميركية شرسة ومتحالفة مع يمين إسرائيلي متطرف لا تنجح معه ألاعيب شراء الوقت.  

نظام طهران لم يُدرك حقيقة أن برنامجه النووي والصاروخي يشكل تهديداً حقيقياً لأمن واستقرار منطقتنا شديدة الأهمية والحساسية، وقد بنى هذا النظام استراتيجيته بشكل ساذج بأن إحاطة إسرائيل بجماعات أقل من الدولة مثل حماس والحوثي وحزب الله والفصائل العراقية وتهديدها يدفع إسرائيل إلى الضغط على أميركا والغرب للتفاوض مع إيران، والقبول بها لاعباً نووياً وقوة إقليمية كبرى في المنطقة تحصد النفوذ والهيمنة والمكاسب في الدول العربية وخصوصاً الخليج العربي.

اليوم، وقد انهارت كل أركان هذه الاستراتيجية الخاطئة، وطهران تجد نفسها وحيدة في الجغرافيا، ولا ينفعها سوى الاستماع إلى تنبؤات العرافة ليلى عبد اللطيف، أو التخلي عن أحلام اليقظة، والقبول بانتقال سلس من فكرة الثورة والهيمنة إلى حقيقة الدولة واشتراطاتها، وتنكفئ إلى داخلها الذي يعاني من ألف مشكلة ومشكلة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.