في مؤسسات الدولة السورية إبان حكم حزب البعث العربي الإشتراكي كان الفاسد هو الذي قبل الشريف يصل، وهو الذي كان عوض النبيل يترقى بسلاسة، وهو الذي كان الأفلح في نيل المغانم، وهو في طبيعة الحال كان المزاوِد في الدفاع عن السلطة، ورأس السلطة، وبطانة السلطة، لأنه بوجود تلك السلطة والبطانة كان يضمن استمراره، وله الصدارة الدائمة في كل الميادين.
وعندما انطلقت شرارة الاحتجاجات في سورية تأمَّل الكثير من السوريين بأنهم إلى جانب تخلصهم من جلاوزة الأجهزة الأمنية سيتخلصون من الفاسدين والمفسدين معاً، ولكن ما حصل على أرض الواقع أظهر العكس تماماً، إذ أن الفاسدين والمفسدين تبوؤا المواقع الحساسة في الحركة المسلحة وتم تصفية أصحاب السيرة الحسنة والكفوف النظيفة واحداً تلو الآخر، كما أن ما زاد الطين بَلَّه هو أن الدول التي تحكمت بالملف السوري عن بُعد بدايةً عبر الدعم المالي صار لها موطء قدم في الداخل، وغدا اعتمادها الأساس والرئيس على الفاسدين والمفسدين كما كان الوضع عليه لدى أجهزة أمن النظام ومؤسساته.
ولا يُخفى على المتابعين أنه قبيل سقوط نظام البعث السوري في نهاية 2024 كان سوريو المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة قد أفلحوا في إعادة ارث النظام النتِن بحذافيره بل وبشكلٍ مشوّه أيضاً، باعتبار أن النظام كان لديه مؤسسات دولة في مناطق نفوذه بينما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام غدت الدوائر نسخ فوتوكوبية أكثر تعاسة من النسخة الأصلية التي قلدوها في كل شيء وعلى رأسه الفساد وإعلاء شأن الفاسدين في مجالاتٍ كثيرة، ليردد السوريون وقتها عبارة زوجة أبو زيد الهلالي التي رفضت مرافقة زوجها في غزوة تونس، إذ بعد أن عادت الأمطار والخيرات إلى ديار بني هلال من جديد عقب سنوات من القحط والتي قالت لزوجها: "كأنك يا أبوزيد ما غزيت".
ولكن مع انهار النظام البعثي وفرار رأس السلطة إلى موسكو راح الرجاءُ يُلوَّح مجدداً في أفق البلد، بما أن الجهة التي كانت تحكم محافظة إدلب قبيل سقوط نظام البعث في دمشق كانت من أفضل الإدارات الموجودة في عموم البلد، لذا كان الأمل في أن يتم الاستفادة من تلك الحالة ونقل تلك التجربة المقبولة نوعاً ما إلى عموم سورية، إلاَّ أن تحكم الدول وتدخلها حال دون تحقيق ذلك الأمل، ووقفت الإملاءات عائقاً أمام الاتيان بكل من كانوا من أصحاب السيرة الحسنة، وبالتالي فشلت الإدارة في إبعاد الفاسدين عن مناصب السلطة الجديدة، بل أدت التدخلات والعقلية الوصائية إلى تثبيت دعائم المفسدين وكرَّست سلطتهم، بل ووسعت من صلاحياتهم، باعتبار أن كبار المفسدين الذين كانوا محصورين في مناطق نفوذ الجيش الوطني على حدود تركيا بعد ترقيتهم صار بإمكانهم نقل تجاربهم الفاسدة وتعميمها في كل سورية.
وفيما يخص موضوع الفساد، فإذا كان إساءة استخدام السلطة العامة لأهداف غير مشروعة هو التعريف الأشمل والأوسع للفساد السياسي؛ فماذا نفعل إذا كان الذي رشّح أو فَرضَ المسؤول السياسي أو العسكري آخر همه مصداقية أو نظافة كف المسؤول المختار رغماً عن الناس لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية آنية أو لاحقة، فهل هنا يجيز لنا استخدام المقولة الدارجة: "الناس على دين ملوكهم"؟ بما أن الناس لم يختاروه أصلاً، ولا الذي فرض هذا المسؤول أو ذاك أعطى أيَّ أهمية لرأي الرعية، بما أن المعيَّن جاء أمر تنصيبه من الخارج وبخلاف الإرادة المحلية، كما كان الوضع في لبنان إبان تحكم النظام السوري بذلك البلد، حيث كان النظام السوري يختار من المسؤولين الذين يوالونها وينفذون أجندتها داخل ذلك البلد، هذا ولو كان المسؤول الذي تم اختياره مِن قبل الأسد أو غازي كنعان مِن رواسب المجتمع اللبناني وأعظم فاسديه.
والفساد في سورية في تتابع ملحوظ، ولا شك في أن السابق هيأ الأرضية الفاسدة للاحق، إذ في زمن نظام البعث الحاكم كان الأكثر فساداً ونفوذاً من أسرع الناس سرعةً في الوصول إلى أعلى المناصب في الدولة، ومنهم على سبيل الذكر محافظ الحسكة مصطفى ميرو الذي كافأه الأسد على فساده ورقاه من مستوى محافظ إلى منصب رئيس الوزراء، وكذلك الأمر مصطفى التاجر الذي كان رئيس فرع المخابرات في مدينة حلب وبعد تعاظم فساده رقاه الأسد إلى رئيس فرع فلسطين في مدينة دمشق.
إقرأ أيضاً: كمشة مفارقاتٍ سورية
وثمة من يرى بأن الحكومة السورية الجديدة على مضضٍ تقتفي أثر النظام السابق في ترقية الفاسدين وأصحاب السجلات الإجرامية وفق تقارير المنظمات الحقوقية، ومنهم على سبيل الذكر حيث عيّنت وزارة الدفاع في حكومة دمشق الجديدة في الشهر الثاني من العام الجاري القيادي محمد جاسم (أبو عمشة) مسؤول "فرقة السلطان سليمان شاه" سابقاً قائدًا لفرقة "حماة" العسكرية في الجيش السوري المزمع تشكيله، وهو ممن فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على فصيله لتورطه في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في منطقة عفرين! كما عينت الإدارة الجديدة سيف أبو بكر قائد "فرقة الحمزة" سابقاً مسؤولاً عسكريا ًعن الفرقة 75 في حلب، وهو الآخر ضمن الذين فُرضت عليه العقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية لتورطه في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، كما أعلنت وزارة الدفاع في الحكومة السورية الجديدة، من خلال صفحة المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية على وسائل التواصل الإجتماعي "الفيسبوك" خبر تعيين فهيم عيسى نائباً لوزير الدفاع وقائداً للمنطقة الشمالية، وفهيم عيسى وفق منظمة حقوق الإنسان في عفرين سجله الجنائي حافل بالجرائم التي ارتكبها من قتل وخطف واغتصاب وإستيلاء على الممتلكات ونهب وسلب وقطع الطرق وتجارة المخدرات والآثار، كما أنه مسؤول عن سجن "حوار كلس" الذي يُعرف بصيدنايا الشمال، وهو مسؤول عن نقل معتقلين سوريين إلى داخل الأراضي التركية، ومع كل ذلك تم تعيينه في ذلك المنصب الرفيع، والمفارقة الأكبر هي أن فهيم عيسى اشتهر بمواقفه المعارضة لهيئة تحرير الشام وقائد الهيئة أبو محمد الجولاني قبل أن يُعرف باسم أحمد الشرع ويصبح رئيساً لسوريا في المرحلة الانتقالية، وقد شارك فهيم عيسى في الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات ضد الجولاني(الشرع) وضد هيئة تحرير الشام في مدينة الراعي منتصف آذار (مارس) 2024، ولكن يظهر أنه كما فُرض على السلطة اللبنانية وعموم اللبنانيين مسؤولين معينين من خارج البلد أي من النظام السوري آنذاك، فثمة جهة دولية أخرى فرضت الثلاثي المذكور على السلطة والشعب السوري برمته، وواضح أن الرئيس الحالي كما كان وضع السلطة اللبنانية إبان حكم الأسد ليس بمقدوره الاعتراض على تعيين هؤلاء المفسدين في الأرض منذ أكثر من ست سنوات وفق عشرات التقارير الحقوقية!!
إقرأ أيضاً: هل يأخذ عبدي بكلام البارزاني؟
وبالعودة إلى موضوع إساءة استخدام السلطة العامة لأهداف غير مشروعة، فمن المعروف أن الفساد عادةً ما يكون مخفياً ويتم بطرق سرية لتحقيق مكاسب شخصية من قبل المسؤول، بينما في بلدنا الأمر مختلف تماماً، لأن الفساد وإساءة إستخدام السلطة ليس بالسر ولا يتم تحت جنح الظلام، إنما يُمارس على المكشوف وبالغصب والإكراه، والمسؤول الرديء معروف للقاصي والداني، وريحة فساده تذهب أبعد من الروائح الخارجة من المداجن أو أسواق السمك، وبدلاً من أن يقرف الناس من ريحة الآجن ويتجنبوا مزبلته تراهم يتسابقون للتقرب منه والتودد إليه، وذلك لأن المسؤول الآسن في سورية سابقاً وراهناً مسنود بقوة السلطة الأمنية والعسكرية، والناس بدلاً من احتقاره تخشى منه، وتتحاشى حتى الحديث عنه فكيف سينتقدونه ويصلحون حال بلدهم إذن؟ ختاماً ولكي لا نتسرع في إصدار الأحكام بحق السلطة الفتية فلندع الحكم الضمني للقارئ من خلال تذكيره بما قاله رئيس وزراء جمهورية سنغافورة لي كوان يو، القائل: "عندما يسير اللصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إما النظام لص كبير وإما الشعب غبي أكبر".