: آخر تحديث

وتبقى كرة القدم وفعالياتها إختراع وسَبق أوروبي بإمتياز

32
33
24
مواضيع ذات صلة

بغض النظر عما تؤول إليه نتائج المونديالات الكروية بين الحين والآخر، كفوز المنتخب الأرجنتيني بكأس مونديال قطر لهذا العالم. وبغض النظر عن رأينا بكرة القدم. بين معجب بها ومتابع لها كنوع من أنواع الرياضة التي تُمتِع مشاهديها، وهؤلاء فيهم من يُحبها كصديقة مثل البرازيليين، أو يعشقها بجنون كالأرجنتينيين. وبين إسلامي متطرف منقاد لهلوسات رجال دين يُحَرّمون لعبها ومتابعتها لأنها حسب رؤيتهم الظلامية الضيقة تُلهي عن ذكر الله وعبادته. وبين يساري مأزوم يهَوّس ضدها ويشنع عليها، لأنه يعتبرها خدعة ومشروع إستثماري للإمبريالية الأنغلوسكسونية. إلا أنها تبقى الرياضة الأكثر شعبية عالمياً، وخصوصاً كأس العالم، حدثها الأكبر والأبرز الذي يقام كل أربع سنوات منذ عام 1930، ويُعَد أكثر الأحداث الرياضية مشاهدة على مستوى العالم. ففي كأس العالم 2006، الذي أقيم في ألمانيا، قُدِّر عدد المتابعين للمباراة النهائية بثلاثة أرباع المليار مشاهد.

تعود فكرة تأسيس إتحاد دولي لكرة القدم الى إجتماع عقد في باريس عام 1863، حضره 12 مندوباً لأندية وجمعيات إنكليزية، للبحث في كيفية وضع قوانين خاصة باللعبة وإنشاء أول إتحاد رسمي لها. فقبل تأسيس الفيفا كانت مئات الأندية والجمعيات تمارس كرة القدم بقوانينها الخاصة. البعض منها مثلاً كانت تسمَح للاعب بإستعمال يديه، فيما منعها البعض الآخر، وبوجود هكذه إختلافات قررت هذه الأندية تحديد أصول اللعبة، ووضع قانون موحد لها. بعدها أُنشِيء الإتحاد الإنكليزي والويلزي والإسكتلندي والإيرلندي، ثم في عام 1882 أسَّسَت الإتحادات الاربعة سوية الإتحاد الدولي لكرة القدم ليُنَظِّم قواعد اللعبة في جميع أنحاء العالم. مع نهاية القرن التاسع عشر إنتشرت اللعبة في جميع أرجاء المعمورة على يد البحارة البريطانيين والمسافرين الأوروبيين، وأٌنشِئَت ونمَت الإتحادات والأندية والمسابقات، وتمَخض عن ذلك تأسيس الإتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بهيئته وتسميته التي نعرفها اليوم عام 1904 في باريس، بحضور سبع دول جميعها أوروبية، هي سويسرا، بلجيكا، الدانمارك، فرنسا، هولندا، إسبانيا والسويد، لتصبح كرة القدم لعبة عالمية. الجدير بالذكر أن فكرة إقامة كأس العالم طُرِحت في هذا الإجتماع، الذي تبنى يومها فكرة إقامة بطولة عالمية، رفضتها اللجنة الأولمبية الدولية في البدء، خوفاً من تأثيرها على الدورات الأولمبية التي كانت قائمة. تم إحياء الفكرة مجدداً عام 1921على يد المحامي الفرنسي دول ريميه، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للاتحاد، وعمل بجهد لإطلاق أول بطولة عالمية لكرة القدم، وبعد 7 أعوام على تعيينه في المنصب وافق الإتحاد في إجتماع تاريخي عقد في25 مايو 1928على إقرار بطولة كأس العالم. 

أما اللجنة الأولمبية الدولية، فهي بدورها منظمة رياضية دولية مَقَرها في لوزان السويسرية، تم تأسيسها عام 1894 في باريس، بمساعي بيير دي كوبرتان، الأرستقراطي الفرنسي المثقف، الذي درس المحاماة ثم تحول إلى الرياضة بعد أن وجدها أساساً لبناء المجتمعات، ولعشقه للتأريخ اليوناني القديم، نادى في 2 نوفمبر1892 بإحياء الألعاب الأولمبية القديمة التي أطلقها اليونانيون عام 776 قبل الميلاد في أوليمبيا على مشارف أثينا لتكون هدنة للحروب المستمرة فيما بينهم، وهو من قام بتصميم شعارها. وقد شاركه مساعيه هذه رجل الأعمال والكاتب اليوناني ديمتروس فيكلاس، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لها بين 1894 و1896. وهي تشرف على تنظيم الألعاب الأولمبية مرة كل أربع سنوات، وقد نظّمَت أول ألعاب أولمبية صيفية في اليونان عام 1896، أما أول ألعاب أولمبية شتوية فقد اقيمت في فرنسا عام 1924.

عام 1954 تم تأسيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بهدف تطوير اللعبة في القارة الأوروبية، والإتفاق على إقامة بطولة تجمع الأندية الكبرى المتوجة بألقاب الدوريات المحلية فيها، والتي تعرف اليوم بدوري "أبطال أوروبا"، وكان يُرى أن بطولة كهذه من شأنها أن تجذب الكثير من الجمهور والإعلام، وبالتالي ستتحول الى ما يشبه الماركة التجارية التي يُمكن أن تدر أرباحاً تعود فائدتها على تطوير اللعبة ومكافأة لاعبيها، وهو ما بدأ يحدث بالفعل خلال العقود الأخيرة. فهل هذا هو السبب الذي بات يدفع العديد من اللاعبين العالميين القادمين من قارات مختلفة للعب في دوريات أوروبية، ويبقي هذه الدوريات بفرقها ومنتخبات دولها الأفضل على مستوى العالم، أم أن هنالك سبب آخر؟ الجواب نعم، لكن هنالك سبب آخر أهم بكثير شَرَحه المدرب الايطالي الشهير كابيلو، حينما سُئِل يوماً عن أسباب تفوق الكرة الأوروبية على ما سواها، فقد أجاب: "لا يمكن لأي مدرب أو معهد تدريب أن يصنع أسطورة، فالأسطورة في كرة القدم حالة نادرة، لذلك نحن نهدف في أوروبا لصناعة أجيال قادرة على اللعب في منظومة متماسكة، وتحت أفكار واضحة. لا يهم من اللاعب، الأهم هو أن الفكرة التي يقوم بتطبيقها هي نفسها التي يتدرب عليها صغيراً، مما يجعل تطبيقها أسهل عليه عندما يكبر". الدليل على صحة كلامه، هو أن الكثير من الفرق الأوروبية المُصَنّفة في مواقع متقدمة على مستوى العالم، حسب تصنيف الاتحاد الدولي، ليس فيه أبطال كمنتخبات أفريقيا وجنوب أمريكا، التي تعتبر منتخبات متوسطة رغم إمتلاكها لواحد أو إثنين من أفضل لاعبي العالم، والسبب في ذلك هو الإفتقار لرؤية صحيحة وموارد مالية كافية لتنشأة وإعداد أجيال قوية في هذه الدول. لذلك نجد بأن أشهر لاعبي كرة القدم في أمريكا الجنوبية يلعبون في الدوريات الأوروبية الكبرى، فحتى منتخب البرازيل الذي توج بكأس العالم 2002 كان أغلب لاعبيه محترفين في أكبر الأندية الأوروبية. إن سيطرة الكرة الأوروبية على مجريات كرة القدم منذ عقود، تبدو واضحة من خلال التعرف على نتائج منتخباتها في بطولات كأس العالم منذ تأسيسها، أو خلال العقود الأخيرة، فحينها سنجد بأنه منذ تتويج البرازيل في 2002، لم يتمكن أي منتخب غير أوروبي من الفوز بالبطولة، أو حتى الوصول للدور النهائي أحياناً، بإستثناء الأرجنتين التي لعبت في نهائي بطولة 2014 وخسرته أمام ألمانيا. كأس العالم 2006 شهد تواجد أربعة منتخبات أوروبية في ربع النهائي، هي إيطاليا وفرنسا وألمانيا والبرتغال. أما كأس العالم 2010 فشهد وصول ثلاثة منتخبات أوروبية الى ربع النهائي، هي ألمانيا وإسبانيا وهولندا الى جانب الأوروغواي. في 2014 نجح منتخبان من أمريكا الجنوبية ببلوغ ربع النهائي، هما الأرجنتين والبرازيل، أما في 2018 فقد تواجدت أربعة منتخبات أوروبية في ربع النهائي مرة أخرى، هي فرنسا وبلجيكا وإنكلترا وكرواتيا. 

رغم أن مُحبي كرة القدم وعشاقها يملئون اليوم طول الأرض وعرضها، ولا تكاد تخلو منهم مدينة من مدن العالم، ورغم أنها لم تعد حكراً عن شعوب ودول ومساحة جغرافية معينة، بدليل أن إثنين من أبرز الفرق على مستوى العالم في اللعب والفوز بالبطولات الدولية والقارية، واللذان أنجبا نخبة من أشهر أساطين الكرة، ينتميان الى قارة أمريكا الجنوبية، وهما المنتخبان البرازيلي والأرجنتيني، إلا أننا لو مررنا سريعاً على النسخ الـ21 السابقة من بطولات كأس العالم، لوجدنا بأن الفرق الأوروبية قد فازت فيها 12 مرة، وهي إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإسبانيا، بمقابل 10 مرات لثلاث فرق من أمريكا الجنوبية، وهي البرازيل والأرجنتين والأوروغواي، والأخيرة فازت فيها عامي 1930 و1950! كما أن أشهر مدارس كرة القدم، بإستثناء المدرسة اللاتينية التي تعتمد السرعة والتمريرات القصيرة والمراوغة، والتي تتبناها فرق دول وسط وجنوب القارة الأمريكية، كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك، هي مدارس أوروبية. أبرزها "الكاتيناتشو الإيطالية" ذات الخصائص الدفاعية، التي تعتمد إغلاق المساحات في منطقة الدفاع والوسط، والاهتمام باللياقة البدنية للوصول إلى مستوى يساعد اللاعبين على التحول السريع من حالة الدفاع إلى الهجوم لإستغلال المساحات التي يخلفها الخصم وتسجيل أهداف خاطفة وسريعة. ثم "المدرسة الإنكليزية" المؤسسة لكرة القدم ذات الخصائص الهجومية، التي تعتمد القوة والتمريرات المباشرة بأقل عدد من اللمسات، من خلال لعب كرات طويلة من الوسط وعرضية من الجوانب. ثم "المدرسة الألمانية" المتوازنة دفاعياً وهجومياً كالعقلية الألمانية، وتعتمد على الشدة والقتال والتنظيم ببناء الهجمات من الخلف، مع إستغلال الكرات العالية في تسجيل الأهداف لتَمَيّز لاعبيها بالطول بالإضافة الى اللياقة البدنية العالية. أما "المدرسة الهولندية" فهي ذات خصائص هجومية تعتمد بناء الهجمات عبر تبادل التمريرات، والإستحواذ على الكرة لأكثر وقت ممكن عبر الإنتشار والتحرك المستمر. ثم "المدرسة الفرنسية" التي تمزج بين التكتيك والقوة البدنية والمهارات الفردية. أخيراً وليس أخراً "مدرسة التكي تاكا الإسبانية" أحدث هذه المدارس وأكثرها جماهيرية في السنوات الأخيرة، التي فاجأت العالم خلال مونديال 2006، وفرضت نفسها سريعاً بين مدارس التدريب العالمية الأخرى، وحققت بعد سنتين كأس أمم أوروبا، ثم كأس العالم عام 2010، وهي تشبه المدرسة اللاتينية شكلاً من حيث التعامل مع اللاعبين قصار القامة من مبدأ المَهارة والسرعة، إلا أنها تختلف عنها مضموناً من ناحية الإعتماد على سُرعة نقل الكرة وصنع المساحات وإستغلال الفراغات. فلسفة هذه المدراس الكروية تختلف في المضمون، لكن تجمعها فكرة أن كرة القدم لعبة جماعية، وأن الفريق المُنَظّم أقوى من اللاعب ذ المهارات، وهو كما ذكرنا ما تحاول كرة القدم الأوروبية ترسيخه بعقول لاعبيها من فرق الناشئة وصولاً الى فرق الدرجة الأولى.

من كل ذلك نكتشف أن أوروبا ليست فقط رائدة، بل وولادة في مجال كرة القدم، فِكراً ولِعباً وتنظيماً، كل شيء يبدأ منها وينتهي إليها. فالأوروبيون هُم من إخترعوا كرة القدم ووضعوا قوانينها وطوروها ونظموا لها بطولات، ونواديهم هي التي تكتشف وتتبنى مواهب اللاعبين الذين يصبحون فيما بعد نجوماً في منتخبات بلدانهم الأصلية، كما لاحظنا مؤخراً في حالة المنتخب المغربي مثلاً، وهم عَرّابوا مدارسها، ولديهم تراكم خبرة قرن في نظرياتها وتكتيكاتها، أي أنهم سادتها بلا منازع، ومن الطبيعي أن تصفى لهم نتائجها والقابها وكؤوسها في الأعم الأغلب. 


[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في