من تجارب البشرية، ومنذ القدم، تعلمنا أن الشرف والشهامة والوطنية والشجاعة قيم نبيلة تولد مع الإنسان، وتكبر وتترعرع معه، فلا تُصَّنع ولا ُتوَّرث ولا تباع ولا تُشترى.
وفيما يخصنا، نحن العراقيين، فإن تاريخنا السياسي يذكرنا بحكام قلائل حرص على تخليدهم، وأسقط آخرين من حسابه، وكأنه اعتبرهم تافهين هامشيين عابرين لا يستحقون أن يذكروا. يعني أنه اعتبرهم من ذوي استخدام المرةٍ الواحدة، (single use) أو (Disposal) يستخدمهم الأجنبي المحتل، أو الغازي، أو المتستر، فترة قصيرة من الزمن، ثم حين تنتهي صلاحيتهم، يرمي بهم في أقرب سلال المهملات.
ورغم اعترافنا بأن العهد الملكي، 192– 1958، لم يكن هو العهد النموذجي في العدل والمساواة والأمانة والوطنية والديمقراطية والعمل الصالح، ولكنه كان مشروع دولة حديثة ناهضة تحاول أن تصلح أحوالها وأن تتطور وتتقدم وتتخلص من عيوبها.
وحتى في أزمنة الانقلابات العسكرية التي حدثت بعده، وصولا إلى كارثة الغزو الأمريكي ووريثه الإيراني، كان العراق أفضل وأرحم. فقد كانت هناك دولة، وقليلٌ من عدل وأمن وسلام. صحيح أنه لم يكن تلك الواحة المزهرة الزاهية، إلا أنه كان آمنا، عزيزا، موحدا، رحيما بأهله وجيرانه، تضج لياليه بالسهرانين الفرحين، وصباحاتُه بالخارجين من منازلهم إلى أماكن عملهم برضا عميق وقناعة هادئة وتفاؤل ورضا، فيتحلقون حول أباريق الشاي ورائحة المشاوي، أو يتزاحمون على دكاكين الكاهي والقيمر والباقلاء، غير خائفين من حشدٍ وعصائب ونجباء وسرايا سلام وجيش مهدي وطرفٍ ثالث مجهول يتقن استخادم الكواتم والخناجر والسيوف. لم نكن نعرف السرقة، ولا المخدرات بكل أنواعها، وحين كنا نسمع، في كل عشر سنوات مرّة، بحادثة سطو أو قتل كان العراقيون جميعهم يتعجبون من ذلك العراقي المنحرف الذي سرق أو قتل أخاه العراقي. وما كان يحصل في الانقلابات العسكرية، وهي قليلة، كان يحدث في أيام معدودة، ثم تعود الحياة العراقية إلى هدوئها وانسيابها الهادئ الرزين، وكأن ما حدث كان غمامة صيف.
ولكنه، ومن أول أيام الغزو الأمريكي، بدأ يعرف الهوان والظلم والغش والاختلاس، وتحديدا من من أيام مجلس الحكم وحكومة أياد علاوي الأولى، وما بعدها وحتى اليوم. نفر سيء من أبنائه المجانين والأنانيين، أشباه رجال، جوعى مال وجاه وسلطة، خدم لهذه الدولة الأجنبية وتلك، لا يخافون ولا يستحون، تربّوا على الغش والكذب والاحتيال والعنف والقتل والاغتيال والسطو وانتزاع حقوق الغير.
ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، يفاجأ بكثيرين من العراقيين، خصوصا من اليافعين، وباستمرار، ينشرون قصصا وحكايات عن نزاهة الملك فيصل الأول، ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم، وروايات عن رؤساء وزرارات آخرين من وزن عبد المحسن السعدون ومحمد فاضل الجمالي وعبد الرحمن البزاز وطاهر يحيى، وعن وزراء من زمن صدام حسين لم يعرفوا الرشوة ولا العمولة ولا استغلال الوظيفة.
وهنا، نسأل، كم واحد منا يتذكر، اليوم، إبراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم ومحمد بحر العلوم وجواد الشهرستاني وموفق الربيعي وباقر صولاغ الزبيدي وعز الدين سليم وعادل عبد المهدي وغازي الياور وفؤاد معصوم ومحسن عبد الحميد وسليم الجبوري ومحمود المشهداني وصالح المطلق وطارق الهاشمي وأسامة النجيفي وأحمد أبو ريشة؟.
سؤال آخر. كم واحد منا سوف يتذكر، بعد أعوام، نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر وفالح الفياض محمد الحبوسي ونيجرفان ومسرور البرزاني ومصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني؟.
وإذا حصل وتذكر بعضهم، ألن يُعجل بلعنهم وبسرد أخبار سرقاتهم وجرائمهم التي لا تشرف ولا تسر؟ لقد جعلوا الوطن خرابة.
وأسألكم بالله، هل إن من فعل ومازال يفعل كل هذا وذاك بوطنه وأهله وجيشه ومطاراته وجسوره ومدنه وقراه وجباله وسهوله وبحاره ومائه وهوائه عاقلٌ أم مجنون؟ لقد جعلوا وطننا دولة بلا جيش ولا شعب ولا حدود ولا موانيء ولا مطارات ولا ثروات ولا أمن ولا أمان.
إن وطناً يصبح رئيسا لجمهوريته واحد كغازي عجيل الياور، ثم جلال الطالباني، ففؤاد معصوم، فلطيف رشيد، لهو وطن لا يصلح لعيش كريم.
أكد رئيس هيأة الحشد الشعبي فالح الفياض، خلال لقائه مع المدير العام للأمن اللبناني اللواء عباس إبراهيم، أن "الحشد الشعبي وحزب الله اللبناني في جبهة واحدة لتحرير القدس تحت راية الإمام خامنئي".
ومحمد الحلبوسي المعين رئيسا للبرلمان، مندوبا عن المكون السني، لم يتحدث، طيلة أيامه في السلطة، عن 12000 من مغيبين أسماهم مغدورين، رغم قربه من ولاية الفقيه، وتحالفه المتين مع أحزاب البيت الشيعي التي تدير الحشد الشعبي والفصائل المسلحة التي اختطفتهم من منازلهم أو على الحواجز التي أقامتها، وكانوا هاربين من داعش. طبعا لم يطالب بفتح ملفاتهم ومعرفة من اختطف ومن اعتقل ومن قتل وأين وكيف. بل طالب فقط بـ"إنصاف ذويهم، وشمول عوائلهم بقانون ضحايا الإرهاب، بالتعويض".
وهنا تبرز إشكالية محيرة بحاجة إلى تدقيق وتحليل. فقد شهد تاريخنا العراقي قائمة طويلة من الفلاسفة والأنبياء والمفكرين ودعاة الوسطية واللاعنف ممن كرسوا حياتهم من أجل أن يغسلوا قلوب مواطنيهم من الأنانية والظلم والجهل وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير. وقد تركوا لنا وراءهم أكداسا من الآثار والمجلدات والنظريات والفلسفات والمدارس الفكرية والأديان الرائدة.
ولكن الذي لا بد من الاعتراف به هو أن كل أؤلئك الناصحين والمعلمين والوعاظ والمجاهدين والمبشرين، بكل رسالاتهم وتصحياتهم، لم يمنعوا ولادة نوري المالكي وقيس الخزعلي وفالح الفياض وعمار الحكيم ومقتدى الصدر ومسعود البرزاني وجلال الطالباني ومحمد الحلبوسي.
أليست هذه مشكلة حقيقية وتبحث عن حل؟