في كل الزمكانيات والدساتير والأعراف والسلوكيات السياسية المتعارف عليها أن الشعوب هي التي تصنع الحكومات وتصوغها وتُنتجها بطرق شتى، فبعضها تُولد من رحم الديمقراطية وصناديقها الإنتخابية وحرية الإختيار للناخبين وأخرى تُنتجها الإنقلابات الدموية وثالثة الثورات التي تحدث للإطاحة بحكامها وأخرى تكتسب الحكم بالوراثة إلا في العراق فالوضع مقلوب تماماً حيث أن الحكومة هي التي تُنشئ شعباً وتُنتج أمة.
قد يكون هذا الحديث غريباً أو مُستهجناً خصوصاً عندما تقرّ قوانين الحياة السياسية مجموعة بشرية مصغرة لإدارة شؤون جماعات أكبر وأعمّ تهتم بشؤون الرعيّة ومتطلباتهم وإدارة وتنظيم مستلزمات حياتهم.
الحكومة في بلدنا هي التي تنتج شعباً، ذلك ما أفرزه واقع الديمقراطية الفاشلة التي جاؤوا بها إلى بلادنا وأوهمونا بخصالها الحميدة، عملية إنتخابية بحركات وقوانين ديمقراطية بإمتياز!! تتكرر لمدة خمس دورات إنتخابية حيث لا زالت صناديق الإنتخابات تُنتج نفس الوجوه والشخصيات ولم يتغير من الواقع شيئاً سوى مزيد من الوجنات المنتفخة والكروش المائلة، فالعراق البلد الوحيد الذي يكون فيه رئيس الوزراء في الدورة القادمة وزيراً ويصبح الوزير برلمانياً ويكون البرلماني مُستشاراً والسارق حاكماً والفاسد نزيهاً.
لا غرابة في العراق في حكومة تُنشئ شعباً بدليل إنكم عندما تنظرون إلى خلافاتهم ونزاعاتهم وصراعهم على مغانم السلطة وما ينتج منها من عنف وقتل وتشريد وفوضى في الحياة السياسية ينعكس سلباً على الشارع الذي يعيش بمفترق طرق عن هؤلاء الأحزاب والمسميات السياسية، لكن الغريب أن خلاف وصراع هؤلاء يصل حتى إلى الحياة اليومية ومصادر المواطن المعيشية.
تمعّنوا أيُها القوم في عراقنا اليوم ستجدون مجتمعاً مرتبكاً وخائفاً يعيش حالة من (التوحد) غائباً عن الوعي في إدارة أمور حياته، بل لقد تجاوز فقدان الوعي إلى شيوع ثقافات الإنتحار والمخدرات والإتّجار بالبشر وعصابات الجريمة المنظمة والإنحلال الأخلاقي بعد أن كان هذا المجتمع يتخوف مجرد الحديث عن مفهوم المخدرات علناً خوفاً من بطش النظام وعقوباته.
تفكك وإنحراف المجتمع وتمزقه هو إنعكاس للإرباك السياسي والفوضى التي يعيشها نظامه السياسي ونتيجة حتمية أنتجتها سياسات خاطئة ونظام سياسي مشوه وعملية سياسية بائسة كُتب عليها الهلاك وهي تحتضر بديمومة الحياة من قناني الأوكسجين التي تتنفس منها وبمجرد رفع هذه القناني ستوقّع شهادة الوفاة لهذه العملية السياسية.
العراق وشعبه اليوم يعيشون في قعر حالات البؤس والفقر والتخلّف في مرآة عاكسة لنظامه السياسي الذي أوجد كل هذه الموبقات من سُخريات الزمن الذي كان يُضرب بهذا البلد الأمثال في العلم والمعرفة والصناعة والزراعة.
الحكومة هي التي تصنع الشعب، ذلك هو الشعار الذي إعتدنا عليه في ظل هذا المشهد المشوه عكس المألوف وغير الإعتيادي، في مفارقة أن كل شيء في العراق يسير بالمقلوب في نتيجة حتمية إستنتجها الشعب أن الحكومة هي التي تصنعهم...أليس كذلك؟.