في هذه الظروف العصيبة جداًّ ليس فقط من تاريخ أمتنا العربية، التي ليس صحيحاً أن تاريخها كله مصائب في مصائب: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، وإنما من تاريخ البشرية كلها حتى بما في ذلك أهل الصين الذين يقال، والعلم عند الله فقط، أنهم هم من أطلق هذه البلوى، التي إسمها "كورونا" والتي أعطيت إسماً "حضارياً" آخر هو: "كوفيد19"، علينا وعلى أهل الكرة الأرضية فأغلقنا أبواب بيوتنا علينا بإنتظار رحمة الله جلّ شأنه.
نقول في هذه الظروف التي لا أصعب منها خرجت من بيتي الذي كنت أغلقت أبوابه خلفي وخلف من معي منذ شهرين بلياليهما وأيامهما وأنا أغطّي أنفي وفمي بـ"كمامة" مشدودة إلى ما وراء أذني بخيط من "مسد"، وأنا أضع فوق عينيّ نظارة "غامقة" السواد، الله لا يسوّد وجه أحد، وفجأة نبت أمامي، في شارع خالٍ وموحش وكأنه ليس في عمان الجميلة.. وإنما إنْ ليس في الربع الخالي ففي صحراء كلهاري البعيدة، شاب في ربيع عمره وهو يطلق ضحكة مدوية.. لقد عرفتك إنت تبع التلفزيونات والصحافة!!.
ظننت أنه أحد "قطاع الطرق" فبادرت إلى البحث في جيوبي عن شيء أبعد به هذا "المتطفل" عن طريقي فوجدتها خاوية فأقترب مني هذا الشاب ليس بحذر وإنما بكل إقدام وشجاعة وقال، بدون دستور ولا حضور، هل تعرف عبدالرحمن الراشد؟.. تردّدت في البداية وكدت أقول: "لا والله لا أعرفه" لكن الفضول دفعني، بدون نعم ولا لا، إلى أنْ أردّ عليه تلقائياً وأقول: ماذا تريد منه؟!.
قال: لقد نصحني الذين يعرفونه ويعرفونك بأن أطلب منك أن "تتوسط لي عنده كي يوظفني في تلفزيون "العربية".. تردّدت قليلاً وقلت له أنّ معلومات من نصحوك قديمة جداًّ وإنّ هذا "الإنسان" قد غادر العربية منذ فترة بعيدة وأنه إنتقل من "دبي" إلى بريطانيا.. ثم ومع أنّه صديقي .. لا بل وأخي فإنني لم أره منذ فترة طويلة وإنني لا أعرف أين هو الآن.. لأن أسفاره كثيرة ولأنه لا يقيم في مكان واحد لفترة طويلة.
في هذه اللحظة فاجأني صاحب صوت مرتفع يردد: "إحنا قاصدين الله وقاصدينك..نحن نعرف أن "الأستاذ" عبدالرحمن من أعز أصدقائك وأنه لا يرد لك طلباً.. وبالله عليك أنْ تلبي طلب الشاب الذي ظروفه صعبة في هذه الفترة العصيبة" رددت بصوت مسموع: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله.. أقسم لكما بهذه الأيام المباركة وبرمضان الكريم أن هذا "الإنسان" لم يعد له علاقة لا بـ "العربية" ولا بغيرها وأنه قد غادر "دبي" والخليج كله ويقيم الآن في السماء.. إذْ أنه على سفر دائم وأظن الآن أنه في أميركا وإنّ "كورونا" اللعينة قد حشرته مع من حشرت وعلى نحو أكثر صعوبة مما نحن عليه الآن بألف مرة".
وبالطبع فإنني في تلك اللحظة، التي كنت أرى هذا الشاب "يكفكف" دمع عينيه بأصابع مرتجفة، تمنيت لو أن هذا الصديق العزيز يهبط عليّ من بين غيوم السماء ليلبي "لهفة ملهوف بالفعل"، وهذا مع أنني أعرف أن عبدالرحمن قد إبتعد عن هذه المسائل كلها.. وهكذا فإنني لم أجد ما أقوله في تلك اللحظة الرمضانية والـ "كورونية" القاسية سوى: إنني إقسم بالله صادقاً أنني سأبذل كل ما في وسعي لألبي لك ولو بعض ما أنت بحاجة إليه.. وأقسم بالله إنني شعرت في تلك اللحظة بالدموع الحارة تنهمر من عيني لأنني ربما مثله قد مريت ذات يوم كان بعيداً بمثل هذه اللحظة الموجعة!