: آخر تحديث

ما وراء "فلسفة الخوف" من كورونا؟

96
104
81
مواضيع ذات صلة

حدَّثني صديقي من سورية: أن َّشابَّاً ابنَ عشرين ربيعاً وحيداً لأهله ليس لهم ولدٌ غيرُهُ خرج في بداية الحرب والأزمة السورية ـــ بأمرِ والده خوفاً عليه من هَيَجان الناس وفتنة القتل ـــ إلى بيروت في الجمهورية اللبنانية؛ فراراً بنفسه وخوفاً من المجهول، فسقط بسيارته من فوق جِسْرٍ في بيروت ولقي حتفَهُ، وتناقلت الصحفُ اللبنانيةُ آنذاك صور الحادث وهول المصيبة.
وآخرُ هربَ من سورية وهو ابن أربعين ربيعاً إلى ألمانيا للأسباب نفسها، فدهسَتْهُ سيارةٌ وهو يركب دراجته الهوائية في أرقى أحياء ألمانيا، ولقي الآخرُ حتفه.
ما أريد قولَهُ: أنَّ هناك معادلةً يجب على كلّ إنسانٍ أن يعيها تماماً، وهي:
أنَّه لا بُدَّ لكل حيٍّ أن يموت سواءٌ بكورونا أو بغير كورونا، ) كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت، وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة(.
وفلسفةُ الحياة قائمةٌ على أن يولدَ الإنسانُ، وينشأَ، ويتعلَّمَ، ثمَّ يقدِّمَ أعمالاً تنفعُ نفسه ومجتمعه، أو تُضِرُّ بنفسه وبمن حوله، ابتداءً من الأسرة ومروراً بالمجتمع والأمم وانتهاءً بالإنسانية جمعاء، فإمَّا أن يترك بصمةً في الحياة تتناقلُها الأجيال، أو عملاً يرتكزُ غيرُهُ عليه ممَّنْ يأتي بعده، أو يأتي إلى هذه الحياة ويرحل دون أن يسمَع به أحدٌ، أو لعلَّه يخلِّفُ بعده سوءاً لا ينتهي بموته، بل تبقى آثارُهُ مدمِّرةً على البشرية كلِّها.
ولكن في النهاية: لا بُدَّ أن يرحل عن هذه الدنيا، فهذه حقيقةٌ لا يناقش فيها أحدٌ، ولذلك ترى البعض ينكرُ وجودَ الله ولكنه يؤمن بالموت.

والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ:
هل يختلفُ هذا المفهومُ في زمان الكورونا، وينقلبُ مفهوماً آخر في غير زمان الكورونا؟!!

ما عاناه الناسُ  من إرهاب "كورونا" يفوق مئاتِ المرات ما وجدوه من أيّ  إرهابٍ آخر على كافَّةِ الصُّعُد، تسمَّرَ الناسُ في بيوتهم، وخَلَت الشوارع، وتوقَّف السفر، وتعطَّلت المطارات، وأغلقت الشركاتُ أبوابها، وكذا المولات والمتاجر والمعامل، أغلقت المساجد، وتعطَّلت الجمعةُ والجماعة، وألغيت المؤتمرات، وأجِّلت الزيارات الرسميةُ على مستوى القادة، وأصبحت القِمَمُ تُدارُ عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي، إلى آخر ما تعرفونه جميعاً.....

وليس هذا فحسب، بل داخَلَ الناسَ الخوفُ والرُّعبُ والهَلَعُ، وتركوا المصافحة والمعانقة، وألغوا مجالس العزاء، وحفلات الأعراس، وتغيَّرت العادات والتقاليد، كلُّ ذلك من فيروس يحتاج إلى التكبير ألفَ مرةٍ تحت المجهر لتستطيع رؤيته، ولكنَّ الحقيقة: أنهم كانوا يخافون من الموت، وليس من الفيروس.

واختلفت آراء الناس حول "كورونا"، هل هو اختبارٌ من الله تعالى؟ هل هو عقابٌ جماعيٌّ بسبب تفشّي الفساد الأخلاقي وغيره؟

وآخرون ينكرون ذلك كلَّه، ويقولون: هي أسبابٌ ونتائج، ومتواليةٌ هندسيةٌ تنتقل بطريقة معينة، واختلف المفكرون: هل هو طبيعيٌّ أو فيروسٌ تمَّ تصنيعُهُ؟ وإذا كان مصطنعاً ففي أيّ المخابر حصل ذلك؟ في الصين أو في أمريكا؟

وتبادلوا الآراء: هل هو حقّاً بهذه الشراسة ويُعَدُّ وباءً عالمياً يستحقُّ أن يتوقَّفَ العالم من أجله؟ أو هو لعبةٌ سياسيةٌ يلعبها الكبارُ من أجل ولادة نظامٍ عالمي جديد؟ وانظر إلى آلاف المقالات التي كتبت حول كلّ هذه الأسئلة، واقرأ التحليلات هنا وهناك تجدْ عجباً.

وفي الحقيقة: لم تحظَ كلُّ هذه الاستفهامات والأسئلة باهتمامي الكبير؛ لأنَّ ما تُجمِعُ عليه كلُّ الإجابات هو أنَّ الكلَّ "خائفون من الموت"، وإذا دقَّقنا أكثر فليست المشكلةُ في الموت، وإنما فيما بعد الموت؛ أي:يوم الحساب.

وبالتالي السؤال الذي أطرحه هنا لماذا كل هذا الخوف ؟  
فأنتَ مرهونٌ بعملك، هذا هو الذي يحاسبك في الدنيا و الآخرة؛كم مِنْ إنسانٍ ظَلَم وظنّ أنه ناجٍ من العقاب، ثم دارتِ الأيام ونَزَلَ الظلمُ بساحته، وانتقم اللهُ منه بظالمٍ آخر، أو بعادلٍ أنزل فيه ما استحقَّه من شرِّ عمله، وهناك من أكل حقوقَ الناس، ونَهَبَ أموالهم وظنَّ أنه نجا من العقاب، وتعاقبت السنين ثم فَقَدَ كلَّ شيءٍ، فلم يجد هو أو ورثتُهُ من بعده ما يسدُّون به رمقَهم؟!!

يرى "هيغل"أنَّ العقاب انتقامٌ،ولكنَّه انتقامٌ عادلٌ؛ لأنَّ المرء يحصُدُ نتيجةَعملِهِ باختياره.كما أنه يُفضّل-هيجل- مجتمعاً مليئاً بالجرائم تمَّت معاقبتُها كلِّها، على مجتمعٍ قليلِ الجرائم تُفلِتُ كلُّها أو معظمُها من العقاب؛ لأنَّ إفلات الجرائم على قِلَّتِها من العقاب يتناقَضُ مع وجود العقاب، أي: كيف تكون الجرائم قليلةً في مجتمعٍ لا يُعاقِبُ الخارجين على القانون؟!!

إذن؛ لا بُدَّ من وقفةٍ مع الذات، لا بُدَّ أن نفكَّر بصوتٍ مرتفعٍ يصل إلى القلب والفكر، ثم ينعكس على الجوارح والسلوك، ثم تبدأ مع كلِّ هذا مراجعةُ الحسابات، وتتولَّد القناعات بالتغيير والانتقال من السلبية إلى الإيجابية، من اللامبالاة بالأعمال التي نقوم بها دون أن نأخذ في الحسبان العقابَ إلى محاسبة النفس والمضيّ قُدُماً في أعمالٍ نكون على قناعةٍ أنَّنا ننفع بها أنفسنا ومجتمعنا والبشرية جمعاء، أن نردَّ الحقوق إلى أصحابها، وأن نرفع الظلم عن الناس، بدءاً من الدائرة الضيّقة في الأسرة والعائلة إلى أوسع الدوائر في مواقع المسؤولية،على الصعيد المحليّ والإقليمي والدوليّ.

فلن يفلت أحدٌ من الحساب والعقاب، إلا في حالةٍ واحدةٍ، هي ما ذكرتُهُ آنفاً، بالرجوع عن الخطأ وليس الاستمرار فيه، بالإقرار بالصواب وأخذ الأسباب للولوج إليه وإنْ كانَ عند غيرنا ممن يخالفنا الرأي، كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوّابون، الخطأ ليس عيباً ولكنَّ الاستمرار فيه هو العيب، والإقرارُ بالخطأ هو أولُ درجات الانعطاف نحو الصواب.

إنَّ جائحةَ كورونا كشفت الغطاء عن المفارقة التي يعيشها كثيرٌ من الناس، أظهرَتْ نقاط ضعف الإنسانية، بيَّنت ضيقَ الأفق الذي يفكّر فيه الإنسان، كيف خاف من مرض كورونا أكثر مما يخاف من الله الذي خلقنا والذي يبده الثواب والعقاب ، وأكثر من خوفه من عواقب عمله؛ وهو ما حذّر منه الإنجيل في بعض آياته:" أَفَتَظُنُّ هَذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟ أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟ ".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في